قوات أردنية قرب الحدود مع سوريا
دورية أمنية أردنية على الحدود مع سوريا

 لم تطغَ الثلوج المتراكمة طوال الأسبوع الماضي على حرارة المعركة حامية الوطيس، التي تدور رحاها على الحدود الأردنية السورية، والتي انتهت بمقتل 27 مُهربا حاولوا التسلل إلى الداخل الأردني. 

في الأشهر الماضية تزايدت وتيرة عمليات تهريب المخدرات من الحدود السورية، وأحيانا كان يُرافق تهريب المخدرات تهريب للأسلحة أيضا، ويُصاحب كل ذلك تمركز وسيطرة مليشيات مُقربة من إيران على مناطق بالقرب من الحدود الأردنية، بالإضافة إلى اقتراب فلول من تنظيم "داعش" لمناطق مُحاذية، وهو ما تعتبره السلطة خطوطا حمراءَ تُشكل خطرا لا يمكن السكوت، أو غض النظر عنه. 

لم ينتظر الأردن، وقرر تغيير قواعد الاشتباك، وأبلغ القيادة السورية "إن لم تتصرفوا؛ سنحمي حدودنا"، وانطلاقا من ذلك قرر "ملاحقة المُهربين في أوكارهم، والوصول إليهم أينما كانوا". 

السلطات الأردنية ترصد وتلاحظ أن عمليات تهريب المخدرات كثُرت، وأصحبت أكثر تنظيما، ويُستخدم في تمريرها تكنولوجيا متطورة، وطائرات مُسيرة، والمُقلق عند دوائر صنع القرار المعلومات التي تؤكد أنها تُدار من خلال عصابات مُنظمة، تتشارك مع جماعات مسلحة، وهذا يزيد من تقاطع ومصالح تجارة المخدرات والأسلحة مع الإرهاب. 

وسائل إعلام عالمية توجه أصابع الاتهام إلى حزب الله، والفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري، بأنهما وراء تهريب المخدرات، وجريدة "لوموند" الفرنسية تدّعي أن نظام الأسد يتزعم تجارة المخدرات في المنطقة، وبأنه طور صناعة "الكبتاغون" لدعم اقتصاده الذي يواجه أزمات منذ سنوات، في حين تشير "نيويورك تايمز" إلى اثنين من المسؤولين السوريين يشرفان على تجارة المخدرات. 

المُثير ما نشرته دراسة صادرة عن مركز كوار (COAR) للتحليل والأبحاث، والتي وصفت سوريا بأنها أصبحت مركزا عالميا لإنتاج "الكبتاغون" المخدر، وكشفت أن صادراتها منه بلغت 3.46 مليار دولار. 

ووفق المعلومات التي نشرتها "نيويورك تايمز" في تحقيق لها، فإن مصانع "الكبتاغون" يُعلق عليها يافطات منطقة عسكرية مغلقة، ويحميها الجنود، ويسيطر مسلحون على معابر غير شرعية لمرور المخدرات سواء عبر مينائي طرطوس واللاذقية اللذين تراقبهما عيون أجهزة الاستخبارات الغربية، عدا عن مسارات التهريب عبر الحدود التركية، والعراقية، والأردنية مرورا إلى أوروبا، ودول الخليج. 

الجيش الأردني أعلن عن إحباط 361 محاولة تسلل وتهريب مخدرات العام الماضي، وبأنه صادر أكثر من 15 مليون حبة "كبتاغون". 

تهديد الجيش الأردني، بالضرب بيد من حديد، دفع العديد من الأسئلة إلى الواجهة، أهمها: لماذا هذه المحاولات المحمومة لاختراق الحدود الأردنية الآن؟ وهل الأمر مرتبط بتجارة المخدرات فقط، أم أن الأمر يتعدى ذلك لمحاولات إرهابية لزعزعة استقرار الأردن؟ 

قبل أشهر كان على أجندة لقاء قائد الجيش الأردني، اللواء يوسف الحنيطي مع وزير الدفاع السوري، علي أيوب، إيجاد حلول حاسمة لأمن الحدود، وكان الرهان أن تتحرك وتتجاوب القيادة السورية مع الشكاوى الأردنية، وتنزع صاعق الانفجار قبل أن يتسبب في إنهاء دفء العلاقات الذي ساد، وأوحى أن عمّان تلعب دورا فاعلا في تأهيل النظام السوري للعودة للمسرح السياسي. 

قصة تجارة المخدرات التي بدأت تشيع، ويُتهم بها النظام السوري بالشراكة مع حزب الله قد تؤجل، وقد تُفشل سيناريو إعادة إدماج نظام الأسد في المنظومة العربية، وكان الحديث أن القمة العربية التي يُتوقع عقدها في شهر آذار القادم، ستشهد ولأول مرة دعوة الرئيس بشار الأسد للحضور وتمثيل سوريا بعد عقد كامل من الغياب. 

النظام السوري لم يقف مكتوف اليدين أما الاتهامات التي تلاحقه من كل صوب، وبدأ حملة لغسيل السمعة وتبرئة نفسه، وتصاعدت حملات وزارة الداخلية لضبط شحنات المخدرات، وكان من بينها وقف شحنة معكرونة تحتوي نصف مليون حبة "كبتاغون" كانت في طريقها إلى السعودية، وقبلها أعلنت وسائل إعلام لبنانية عن ضبط شحنة رمّان محشوة بـ "الكبتاغون" جاءت من الأراضي السورية. 

وتوالت إعلانات وزارة الداخلية بالحكومة السورية عن إلقاء القبض على شبكات تجار المخدرات لتوجه رسائل متعددة، أولها أنها تدفع الثمن لهذه التجارة مثلها مثل غيرها من البلدان، وبأنها تتصدى لها، والثانية أنها "الحامي" لجيرانها، والرسالة الأخيرة أن المخدرات ستظل ورقة ضغط تفاوضية مع دول الجوار تستخدمها كيفما تشاء. 

في هذا السياق يمكن قراءة لقاء مدير المخابرات السعودية، اللواء خالد حميدان مع مستشار الرئيس السوري للشؤون الأمنية، علي مملوك، وبالاتجاه ذاته كانت الزيارة الإماراتية التي ضمت وفدا من بينهم محمد الشامسي، رئيس الهيئة الاتحادية للهوية والجنسية والجمارك وأمن المنافذ. 

والمرجح رغم كل ذلك، إن معظم السيناريوهات السياسية والاقتصادية مع سوريا أردنيا وإقليميا ودوليا أصبحت في مهب الريح، رغم أن هناك من يعتقد أن قصة تصنيع وتجارة المخدرات "مُختلقة" من ألفها إلى يائها، والضخ فيها إعلاميا وسياسيا استكمالٌ لحلقات المؤامرة لعزل سوريا، وهو ما يؤكده مدير مكتب اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات السوري، حسام عازر الذي يصف هذه الحملات بأنها مُضللة. 

في الواقع، وعلى الأرض، فإن أولوية الأردن حماية حدوده من الاختراق، ووأد تجارة المخدرات أو السلاح في مهدها، ورفع الكرت الأحمر بوجه المهربين، أو الميليشيات، أو المتواطئين معهم حتى لا يقتربوا من أراضيه، ولكنه صاحب مصلحة أكيدة في ترتيب الأوضاع السياسية في سوريا، وإنهاء الاقتتال والحرب الأهلية، وعودة سوريا إلى الحضن العربي. ففي ميزان المصالح، قد خسر الأردن جراء إغلاق الحدود منذ بداية الأزمة ما يزيد عن 20 مليار دولار، ولن يكون طرفا في عبث، أو أزمة مفتعلة لإبقاء نظام الأسد محاصرا. 

كل الكلام لا يُفيد، ويستطيع نظام الأسد أن يُثبت براءته من قصة تجارة المخدرات، أو غض النظر عنها، بتوجيه ضربات حاسمة لمصانع، ورموز التهريب، ومحاصرتهم، وإحكام سيطرته على الحدود حتى لا تظل "سايبة" وتؤرق دول الجوار، وتُشعرهم بالخطر المُحدق، وبالتالي يضع حدا للرواية أن "المخدرات" هي من تُبقي اقتصاد النظام حيا. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.