Russian President Vladimir Putin attends a meeting with the head of Russia's Union of Industrialists and Entrepreneurs, a big…
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

إن منظر فريق عمل TV Rain، أحد آخر القنوات الروسية التلفزيونية المستقلة والتي تعرف بإسم Dozhd، وهو يغادر موقع التصوير لربما إلى غير رجعة بسبب من الضغوطات التي تعانيها القناة على إثر تغطيتها للأوضاع في أوكرانيا هو منظر يدعو حقيقة للتأمل. في شرقنا الأوسط خبر مثل هذا ليس مستغربا، ولربما هو مستحسنا من حيث بساطة التبعات، ليشكر الناس الأقدار أن الموضوع لم يتعدى إغلاق القناة. في الغرب خبر مثل هذا ليس مفهوما، ففي أغلب الدول الغربية، لا توجد آلية إغلاق قناة إعلامية أو إسكات صوت إخباري، هذه فكرة فضائحية غير ممكنة في معظم العالم الغربي. في الشرق الآسيوي الغريب، الذي لا يزال يحيا في برزخ بين حياة الغرب وموت الشرق، الصورة مضببة بين بعض من الانفتاح الشخصي وكثيرا من القمع السياسي، وهي وضعية تمثل مرحلة لربما منتصِفة بين حيز الاستبداد التام وحيز حريات ومشاركات سياسية وحكمية حقيقية. تقف قلة من دولنا العربية كذلك في هذا الحيز الهلامي الغريب، حيث تبدو مدنية من الخارج وعشائرية من الداخل، ديمقراطية الشكل المؤسسي وديكتاتورية الفحوى القيادي، منطقة لا أرضية صلبة يقف عليها الشعب المعلقة مصائره في حبال تحركها أبوية عنيفة قديمة من مخلفات الدول الإمبراطورية البائدة.    

المشهد مؤثر ومؤسس القناة يترك موقع التصوير قائلا "لا للحرب" لتصدح بعدها القناة "المتوفاة" بموسيقة سمفونية "بحيرة البجع" وهي ذات السمفونية التي صدحت موسيقاها على قنوات الاتحاد السووفيتي وقت سقوطه في رسالة واضحة من طاقم القناة بأن هذا الطريق يمثل بداية النهاية. المشهد آخذ في التدهور السريع، بمعدل أسرع بكثير من المتوقع، حيث ارتفعت أعداد النازحين الأوكرانيين إلى معدلات مخيفة مهددة للأمن الإقليمي والعالمي ومنذرة بوقوع أوبئة ومجاعات إلى غيرها من صور المعاناة الإنسانية المستفحلة. واليوم بدأ الروس يستشعرون ثقل الحرب والعقوبات الدولية التي لا يبدو بعد أنها مؤثرة في سياسة الديكتاتوريين الذين يقودون المشهد، فهؤلاء عادة ما يكونون آخر من يدفع الثمن، رغم أنه سيكون ثمنا مرتفعا مخيفا، وقدري نهائي. المشهد يذكر تماما بنظيره السوري، الأخير دماره على مستوى إقليمي والأول دماره على مستوى عالمي، وكلاهما يعكسان غرابة جنسنا البشري الذي لا يطوره علم أو تقدم أو أيديولوجيا إنسانية أخلاقية، والتي كلها تبدو قشورا تخفي تحتها بدائية سميكة لا تريد أن تقفز الطفرة أبدا.   

مشهد مكتب القناة الخالي إلا من موسيقى "بحيرة البجع" يأخذ التفكير للفكرة الأساسية البدائية القابعة أسفل آلة الحرب الجبارة، فكرة الخوف سواءا كان خوف على مصلحة أو سلطة أو مال أو أمن أو حياة. إلا أن معادلة الخوف بين صاحب الرأي وقامعه هي المعادلة الأكثر عمقا من حيث معناها الإنساني. من الخائف أكثر القائمين على القناة التي أغلقت أبوابها أم بوتين وآلته الجبارة مما قد تكشفه تلك القناة؟ بالعموم من الخائف أكثر صاحب الرأي المعارض أم حكومته السلطوية التي تسعى لإسكاته؟ صاحب النقد الديني أم مشايخ الدين الذين ينحون مباشرة للتكفير والتهديد؟ صاحب الرأي أم صاحب السلطة والسلاح؟

يجر الغزو الروسي لأوكرانيا الأفكار ويستدعي المواقف ليربطها بعضها ببعض باتصال فلسفي مثير للاهتمام. تحضرني تصريحات بوتين الأخيرة مثلا حول التنوع الجندري، حيث كان له رأي متطرف عنيف يستخدم ذات مفردات التي يستخدمها "الكليرجي" الديني تعزيرا وتهديدا ووعيدا. كما وأن لبوتين تصريحات أخيرة مدافعة عن الموقف الإسلامي أمام مفهوم حرية الرأي، وهو موقف، مرفقا بموقفه العنيف من التعدد الجندري، أوعز لبوتين بتأييد شعبي كبير في المنطقة العربية، دافعا بالعديد من المحافظين والمتدينين، ويا لسخرية القدر، للاستشهاد بنبل وأخلاقية بوتين، بوتين الذي هو نتاج الحزب الشيوعي السوفيتي الذي يفترض أنه يمثل كل ما هو متضاد والأيديولوجية الدينية.

إلا أن واقع الحال أن القمع السياسي والقمع الديني يبقيان وجهان لعملة واحدة، ولذا، مهما فرقتهما الأفكار، يجمعهما القمع، ومهما باعدت بينهما الأيديولوجيات، تقرب بينهما فكرة الشمولية السلطوية، ومهما اختلفت أساليبهما، تتشابه بينهما الفكرة البدائية الفاعلة لفرق تسد. هذا التشابه يجر للتساؤل حول السيكولوجية التي تحكم علاقات الناس في كل هذه المعادلات، من الخائف أكثر الناقد لفكرة دينية ما من قوانين إزدراء الأديان وتبعاتها أم رجل الدين من تلك الفكرة الصغيرة في رأس الناقد؟ من الخائف أكثر الروسي الذي يعلن معارضته لهذه الحرب البشعة أم بوتين من هذا الرأي مهما انفرد وضعف وأُغلقت الأبواب في وجهه؟

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.