الفساد والإفلات من العقاب والفوضى عصفت بالحكومات المتعاقبة
الفساد والإفلات من العقاب والفوضى عصفت بالحكومات المتعاقبة

يتفشى الفساد في منطقتنا العربية بشكل مرعب لأسباب عدة متشابكة وتاريخية ومتجذرة جعلت من الفساد الناتج كينونة جيلاتينية القوام غريبة الطعم، لا معنى لها وأحيانا حتى لا فائدة منها، وكأن الناس وحكوماتها تمارس الفساد كهواية لا كوسيلة لتحقيق غاية، أو كأن الفساد أصبح فعليا أسلوب حياة يأتيه الناس من دون أن يستشعروا إتيانه، والأخطر، من دون أن يتحسسوا أو يُحرجوا أو يخافوا تنفيذه.

وليس الفساد المرعب الذي أشير إليه هنا هو فساد مالي، فهذا أقل أنواع الفساد خطورة وتأثيرا، أسهلها تمييزا، وأكثرها مباشرة من حيث التقييم والعقاب. الفساد المفزع الذي أشير إليه هنا هو هذا النوع من الفساد الأخلاقي "الناعم" الذي يزحف بهدوء وأناقة ثعبان جميل النقش، نوع لا يقتل الضمير ولا يهدد المبادئ والمُثل فحسب، إنما هو يأتي حتى على المناطق العميقة والفطرية في الروح البشرية، فساد يتحدى الخوف ويجعل الإنسان يأتي من الأفعال ما لم يمكن لبشر طبيعي صاحب ضمير وعقل، أو على الأقل صاحب عقيدة تردعه كما يفترض أن يكون، أن يأتيها. 

لا تغيب عني صورة المُدرسة المصرية في منطقة الدقهلية التي احتاجت لقوة شرطة لإخراجها من المدرسة، والتي لم تنج رغم تحويط هذه القوة لها في محاولة لحمايتها، لتتعرض لضرب مبرح موجع مسجل صوتا وصورة من الجمع الذي كان ينتظرها خارج المدرسة. تلح علي المشاهد المؤذية لهذا الفيديو القصير، تحديدا مشهد نزول أحد الملتمين حولها بيده على رأسها في صورة حقيرة، مخزية وموجعة. لماذا كل هذا؟ لأن هذه المدرِّسة حاولت إيقاف عملية غش في المدرسة، مما دفع بأهالي الطلبة للتجمع لضربها على الباب لتسببها في تراجع أبنائهم.

مباشرة يحضرني مشهد تجمع الأهالي في اعتصام في الكويت عند أبواب وزارة التربية قبل بضع سنوات احتجاجا منهم على رسوب أبنائهم في الدراسة بسبب اصطيادهم بالجرم المشهود: الغش في الامتحانات النهائية للسنة. ترن كلمات أحد أولياء الأمور في ذهني وهو يقول حانقا ما معناه: هؤلاء "عيالكم"، ولم يأتوا جرما كبيرا، فقط غشوا في الامتحان، وهل تريدون إقناعي بأن أساتذة الجامعة الذين وصلوا لمرحلة الدكتوراة لم يغشوا قط؟ لم يستوعب هذا الأب الكوارث المختزنة في كلماته والتي لربما أهمها كارثة أنه هو شخصيا أب ومربي يقف موقف المبرر والمبسِّط لسلوك الغش في الامتحان. إلا أن المعاني الكارثية المبطنة في كلمات هذا الرجل تذهب لأبعد بكثير وهي تشير بوضوح لخرابات حلت بالجيل الماضي ولكارثة التعليم الحقيقية المحيقة بالبلد خصوصا من حيث وجود شكوك حول شهادات أعلى الدرجات الأكاديمية فيه. هل فعلا عملية الغش مقبولة إلى الحد الذي يسوغ لأولياء الأمور أن يخرجوا احتجاجا على معاقبة أبنائهم بدل من أن يختبؤوا خجلا في بيوتهم من فعلة هؤلاء الأبناء؟ وهل فعلا انتشر الغش لحد وصوله للجسم الأكاديمي الأعلى في الدولة؟ وإذا كانت الإجابة بلا، فهل أصبح الغش أمرا بسيطا ومعتادا حد أن يتلفظ ولي الأمر هذا به كتهمة زور تجاه أكاديميي البلد دون عقوبة أو تبعة؟

ومثلما لم تتورع إحدى السيدات عن السرد العلني الأريحي لحكاية استخراجها لأذون طبية غير حقيقية لأبنائها تبريرا لغيابهم عن مدارسهم، لا تحرج أخرى من أن تفخر بتسجيل اسمها صوريا في إحدى شركات البلد لتحصل على مبلغ "دعم العمالة" الذي تصرفه الكويت للعاملين في قطاعها الخاص تشجيعا لهم، ولا تحرج غيرها من أن تعرض على صديقة لها الاستفادة من بطاقتها الخاصة ببرناج "عافية"، وهو نظام التأمين الصحي الحكومي للمتقاعدين في الكويت، انتحالا لشخصيتها للاستفادة من الخدمات الطبية الخاصة على بطاقتها. سلوكيات صغيرة منمنة تشكل أسلوب معيشة وشكل حياة، ليأتي النتاج فاسد قبل أن يكتمل ولتغيب المبادئ تماما عن المشهد، والأخطر والأمر، ليتحول الفساد هذا كله بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة لأمر معتاد، مسرود علنا، بل ومتفاخر به. 

ليس من الواضح تماما أين ينمو هذا الفساد في البداية وأن يفرخ في النهاية، هل تؤسس له الحكومات بأنظمتها وإداراتها وقضائها التي كلها من المحيط إلى الخليج، وإن كان بنسب متفاوتة، تعيش فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في أسلوب استبدادها وطريقة فرض سيطرتها على الشعوب وحالة نخر الفساد لكافة أذرعها، أم هل تؤسس له الشعوب التي تنتج هذه الحكومات وتشكلها؟ وعلى الرغم من فداحة الفضائح الحكومية الكبرى التي تظهر بين الفينة والأخرى في هذه الدولة أو تلك، هنا سرقة كبرى، هناك اغتيال علني، في بقعة أخرى تكميم للصحافة، وفي غيرها فتح للمعتقلات وانتهاكات مخابراتية للشعب، إلا أن الخطورة الحقيقية تكمن في قلب الشعب، في القصص الصغرى في حياته، في التهاونات الأخلاقية اليومية البسيطة، في اعتياد الانهيار القيمي واتهام من يحاول التمسك بها بالمبالغة والسخافة، في التحول غير المرئي السريع للاعتياد إلى استحسان ثم إعلان ثم تفاخر بالفساد. 

لقد استتب في الضمائر الشابة اليوم مفهوم الوصول بأسرع الطرق وأقلها مشقة، مهما بلغت التكلفة الأخلاقية، وهذه فكرة مرعبة حقا تذكر بفجر البشرية البدائي الذي لم تكن تحكمه بعد منظومة أخلاقية متطورة وتنذر بعودة سريعة إليه. إذا كان الدمار الحياتي الناتج لا محالة عن هذا الفساد لا يقلق الناس، ألا يقلقهم عقاب رب يؤمنون به ويعتقدون تماما بجنته وناره؟ وكيف يسعى شخص لإتمام صلاته وتفاصيل وضوئه قبلها على أتم وجه قلقاً تجاه كل تفصيل من تفاصيلهما، ليتبع ذلك بتزوير ورقة أو اللجوؤ لوساطة أو التصويت لمرشح برلماني فاسد؟ كيف يغيب الربط في العقول المحافظة المؤمنة بين الحياة العامة بيومياتها والخالق الذي صنعها كلها؟ هل يصليك الله النار إذا نسيت ركعة في الصلاة ولا يحاسبك على الغش في الامتحان؟ كيف خلقت العقول العربية هذه المعادلة الغرائبية المريضة؟

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.