حقوق النساء - الكويت - قوانين - أبناء الكويتية
"دم المرأة "ماي مايوه"، بالتعبير الخليجي الشائع"

ظهر قبل أيام خبر في الكويت بتوافق نيابي حكومي على مقترح بقانون لتجنيس زوجات الكويتيين، والذي هو قانون قائم أصلاً ولكن أتى مقترحه الجديد بمميزات أكبر، حيث يسمح هذا المقترح بقانون بتجنيس زوجة الكويتي حتى ولو لم يكن لها أبناء، كما ويسمح بتجنيس أكثر من زوجة للرجل الكويتي الواحد.

وإلى حد الآن، يغيب عن الساحة تماماً أي خبر حول أي مقترحات بقوانين لتجنيس أبناء الكويتية المتزوجة من غير كويتي أو توفير إقامة دائمة آمنة لهم، دع عنك تجنيس زوجها بحد ذاته.

لا زال لحد هذه اللحظة الأبناء البالغين للكويتية المتزوجة من غير كويتي يُعاملون معاملة الوافدين، مع التحفظ على لفظة وافد رغم صحتها اللغوية وذلك لسوء استخدامها ولتشبعها بالإشارات العنصرية مؤخراً، فلا أولوية لهم في بلد والدتهم لا من حيث التوظيف ولا الخدمات، لا يمكنهم التملك على الأراضي الكويتية ولا يتحصلون على أي نوع من الإقامة الدائمة الآمنة بحكم انتمائهم لأمهم. 

ابن الكويتية غريب تماماً في بلد أمه، لا يعاني فقط الاغتراب الفعلي المتمثل في معاملته معاملة الزائر الطارئ ولكن كذلك يعاني من الاغتراب والتنازع النفسيين، اغتراب الشعور بأنه وكأنه طفرة غريبة أو "زويدة" ناتئة المعظم ينظر لها باستغراب وأحياناً بامتعاض، والتنازع بين الشعور بالانتماء النفسي والغربة الهوياتية في هذا المجتمع الذي كبر وعاش وتعلم وكون شخصيته فيه.

ليس الأمر بمستغرب أو جديد، فالكويت هي بين 23 إلى 25 دولة في العالم لا تزال تمنع المرأة من كامل حقها المدني في تمرير جنسيتها لأبنائها، حيث تقع الكويت في الخانة الحمراء بين هذه الدول، مع دولتين أو ثلاث أخريات، والتي هي على أعلى سلم التشدد من حيث تمكين المرأة من تمرير جنسيتها لأبنائها أو توفير إقامات دائمة لهم، لتتراكم معاناتهم على أراضي تلك الدول ولتُنتهك حقوق المرأة كمواطنة فيها بأشد الصور وأقساها تبعات اجتماعية واقتصادية وأمنية ونفسية. 

المستغرب هو الإمعان في بروزة هذا الظلم الصارخ في دولة، مثل الكويت، يفترض أنها الأكثر تمدناً وتفتحاً "شعبياً" بين دول الخليج، من خلال "ذكور" نيابيين لا يتوانون، لا يخجلون، ولا حتى يتحسسون من تضارب موقفهم الرجعي العشائري المتخلف مع صفتهم البرلمانية التي هي أحد أهم مظاهر الدولة المدنية التي يفترض أن يحيا فيها مواطنون متساوون يحكمون أنفسهم لا رعايا يسوقهم حكم مطلق ويولَّى بعضهم على بعض.

إن توحيد الهوية الوطنية للأسرة وتدعيم انتمائها الموحد النفسي والمكاني والجسدي هما من أهم دعائم بناء الأسرة القوية، وبالتالي أهم ركائز المجتمع القوي المتماسك.

لذا، فإن تجنيس زوجة الكويتي أمر مستحق لا اعتراض عليه، بل والزمن المذكور في المُقترَح كفترة انتظار قبل التجنيس، ثمانية عشر سنة، هو زمن مبالغ فيه جداً واقتراحه يشكل تراجعاً خطيراً عن القانون الحالي الذي ينص على فترة خمس سنوات زواج فقط، حيث يفترض أن يتم لم الشمل الهوياتي في زمن أسرع لتنمو وتتنامى الأسرة في ظروف نفسية صحية، وليجد أفرادها المزيد مما يجمعهم لا ما يفرقهم على الأرض التي يحيون عليها.

إلا أن القانون العادل يصبح ظالما وقحا حين يستثني مستحقة أو مستحق بسبب لغة أو عرق أو أصل أو جنس أو دين، تماماً كما تشير كل الاتفاقيات والعهود والمواثيق الإنسانية وكما ينص الدستور الكويتي في مادته 29 والتي تقول: "الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين".

وعلى أنني من مدرَسة "ما لا يدرك كله لا يترك جله"، إلا أنه تطبيقاً على هذا الوضع الاجتماعي المختل والمستمر في الكثير من الدول من بداية تكوينها المدني، فإن موضوع المساواة المدنية بين الجنسين لم يعد يحتمل الاستمرار في هذا الاختلال كما ولا يتحمل التجزئة أو التقسيط.

ورغم كراهيتي لمبدأ "إن عم الظلم فهو عدل" فتعميم الظلم هنا يبدو "الأكثر عدالة" في هذه المعادلة الشاذة في الواقع. فأن تضيف للحرمان المدني للمرأة كمواطنة مكتملة الأهلية ألم التمييز الفاحش ضدها والإمعان في إهانتها من خلال إغراق الرجل في المزايا بل والذهاب إلى تدليله بها، فهذا مما يزيد من فحش الظلم ويرفع من أذى تبعاته النفسية والحياتية.

زوجة وزوج المواطن والمواطنة، أياً كان البلد المعني، هم أشخاص يختارون أن يتركوا بلدانهم ليتخذوا من دولة شريك الحياة موطناً جديداً، يستثمرون فيها أعمارهم وأموالهم وجهودهم، يعمرونها ويخدمونها ويتوغلون في "نسيجها" الثقافي، بل ويخدمون، حتى نكلم العنصريين الطبقيين بلغتهم، ويسهرون على راحة مواطني هذه الدولة وأبنائهم بعد أن يصبحوا طرفاً في الأسرة.

فالوافدة التي تتزوج المواطن تنجب له الأبناء وتبذل العمر والجهد في بنائهم وتترك حياتها الماضية لتحيا معهم وبهم وكذا هو حال الوافد المتزوج من مواطنة، أفلا يستحقون أمان الانتماء الهوياتي واستقرار التوحد النفسي مع بقية الأسرة؟

أما الأبناء، فآه يا قصة أبناء الكويتية تحديداً المتزوجة من غير كويتي، فهؤلاء لربما وضعهم هو الأصعب بين أبناء المواطنات المتزوجات من أجانب في كل دول الخليج.

يكفي أن الكويتية تحتاج لأن تجدد إقامات وتأمينات صحية لزوجها وأبنائها كل سنة في إجراء مهين لمواطنة على أرض بلدها، يكفي أنها تحيا عمرها كله برعب أنه حال وفاتها لا يمكن لأبنائها أن يتملكوا البيت، ليصبحوا مقسرين على بيعه كونهم أجانب لا يحق لهم التملك في البلد، وليبقى أمامهم إما البقاء بعقود عمل أو المغادرة الفورية، مثلهم مثل غيرهم من الأجانب الذين يحييون ظروف صعبة كذلك وهذا موضوع آخر لمقال آخر. 

يبدو أن الحكومة والنواب وشريحة كبيرة من الشعب في الكويت، وبقية الدول التي تحرم المرأة حقها المدني في تمرير جنسيتها للزوج والأبناء، يتصورون، فعلياً لا مجازياً، أن دم الأم مخفف جداً لدرجة تجعله غير قادر على مقاومة استحواذ "الدماء الغريبة" للطرف الآخر، وكأن هذه الأم لا تشكل نصف التركيب الجيني والكروموسومي للكائن الناتج الجديد.

لابد أن مخيلة هؤلاء تصور لهم فعلياً أن دم المرأة "ماي مايوه"، بالتعبير الخليجي الشائع، أي أنه مخلوط إلى حد كبير بالماء، ليأتي طفلها كائنا هجينا، لا يحمل "الكويتية الأصيلة" في عروقه والتي عجز دم الأم المخفف عن تمريرها إليه، وذلك على عكس دم الأب الثقيل الذي يستحوذ على العروق متمدداً فيها ومعه أصالته التي ستؤهل الطفل الجديد للانتماء.  

تعال أخبر العنصريين أن الموضوع يشكل كارثة علمية إنسانية مدنية، أنه ينم عن جهل مدقع وعشائرية لا تمت للدولة المدنية الحديثة بصلة، أن كل هذه التحيزات فقيرة زائلة سخيفة وجاهلة، وأنه لا قيمة ولا حقيقية للتقسيمات التي يمعن الإنسان، الذي يمتد أصله لكائن بحري أولي ظهر مع بداية ظهور الحياة على الأرض، في ترسيخها ليقنع نفسه من خلالها بأفضليته على غيره وهو أصلاً لا يتعدى كونه "سمكة" حديثة.

أي فرصة لك لتقنع هؤلاء بمفهوم بسيط مثبت علمياً وأخلاقياً وفكرياً بتساوي كل البشر؟ كيف تقنعهم أن الموضوع لا علاقة له بالدين من منطلق أن الجنسية أمر مدني حديث لا يقرب للفقه الديني لا من قريب ولا من بعيد؟ كيف تقنعهم بالحقيقة العلمية التي تتوخى الاعتماد بشكل أكبر على الدم الأنوثي لا الذكوري في إثبات امتداد نسب الإنسان؟ كيف تدفعهم للتخلي، ولو للحظة، عن تمسكهم المستميت بالمصالح والمكاسب والتفكير بجمع الأصوات والمحافظة على الكراسي ليلتفتوا ولو التفاتة قصيرة لهؤلاء المهدرة حقوقهن في دولهن والمهانات كل يوم بمواطنتهن مثلمة الأطراف؟ 

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.