الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - حصان - إجازة في سيبيريا
" لا الغرب عدو للإسلام ولا بوتين مُخلص ولا هو سينتصر في هذا الصراع"

منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا وأنا أتابع تغطية عدد من وسائل الإعلام العربية لها، فضلا عن تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع ما يحدث.

وبدا واضحا لي أن هناك بعض المحللين وصناع المحتوى، قد قرروا منذ بداية الأزمة أن يتعاملوا مع فلاديمير بوتين باعتباره البطل المنقذ والمُخلص المُنتظر، بل وأن بعضهم هلل ويهلل له على شاكلة ما اعتدنا أن نراه في الأفلام التي تصور طريقة اختيار فتوة الحارة في الماضي. 

لو كنت قد شاهدت فيلم "الحرافيش" المأخوذ عن رواية الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ والتي تحمل نفس الاسم، فلابد أنك تتذكر مشاهد اختيار الفتوة. حيث يتجمع أهل الحي أو الحارة ليشاهدوا مبارزة بين اثنين من الأقوياء بـ "النبابيت" (جمع نبوت، وهي العصا الغليظة) حتى ينتصر الأقوى. فمشهد انتصار سليمان الناجي أو "محمود ياسين" على عتريس غريمه. والذي تلاه فرحة الحرافيش مرددين "سليمان الناجي.. اسم الله عليه.. اسم الله عليه" هو أقرب ما يكون لما أقصده.

هذه الهتافات أو الفرحة، تشير إلى عصر جديد وتتويج زعيم جديد يحمي أهل الحارة من أي معتد، مما قد يشكل بارقة أمل لحياة أفضل وأكثر عدلا للبسطاء والضعفاء من أهل الحارة. ويمكنك أن ترى هذه السردية بوضوح وأنت تتابع بعضا من وسائل الإعلام أو ما يقدمه عدد من صناع المحتوى الرقمي العربي. 

هنا المبارزة ليست بين اثنين من الرجال الأقوياء، ولكنها بين بوتين من ناحية وبين الغرب من الناحية الأخرى وفي قلبه الولايات المتحدة الأميركية. ولكن الفارق الأساسي هنا، هو أن بوتين لم ولن ينتصر!

ومع ذلك فإن حماسة الكثيرين لترديد السردية الروسية بكل ما تحمله من أكاذيب، بشأن هذه الحرب والترويج والانتصار بحماس لها ولروسيا في العموم ولبوتين على وجه الخصوص هو أمر يستحق الرصد والمتابعة والدراسة من قبل المتخصصين في دراسات الإعلام والشرق الأوسط. 

الأمثلة على ما أقوله كثيرة. فبداية من صورة بوتين وهو عار الصدر وهو يمتطي فرسه، مرتديا صليبه الذهبي في مواجهة صورة الرئيس الأميركي، جو بايدن، وهو يتعثر لأكثر من مرة بينما يصعد سلم الطائرة الرئاسية، ونشرهما جنبا إلى جنب أو من خلال فيديوهات قصيرة تنتشر على مواقع التوصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، في إشارة مزيفة ومتوهمة لـ "قوة روسيا في مقابل ضعف الولايات المتحدة". وهي بالطبع صورة لا علاقة لها بالحقيقة، فقوة الدول لا تُقاس بحجم عضلات أذرع رؤسائها! 

ومرورا بالمبالغة في قوة وحجم الاقتصاد الروسي في مواجهة اقتصادات الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، وهي مقارنة لا تصب في صالح روسيا على الإطلاق.

فعلى الرغم من حجم روسيا الهائل كأكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وفضلا عن احتياطات النفط والغاز الضخمة فيها، إلا أن الناتج المحلي الإجمالي (GDP) الروسي في سنة 2020 مثلا، كان أقل من الناتج المحلي الإجمالي لولاية أميركية مثل تكساس وحدها. 

وانتهاء ببعض المحللين الذين حدثونا في بداية الحرب عن كيف سيسيطر الجيش الروسي بسرعة وبسهولة على أوكرانيا، من خلال حرب خاطفة. في حين كشفت الأسابيع الماضية خطأ توقعاتهم. فقد تابعنا ورأينا استبسال ومقاومة الشعب الأوكراني بمنتهى الشجاعة دفاعا عن أرضه في مواجهة الغزو غير المشروع والمتوحش، والخسائر بالآلاف في صفوف الجيش الروسي والتي وصلت إلى حد قتل عدد من كبار قادة الجيش.   

والحقيقة أن الأمثلة عديدة جدا ومن الصعب حصرها في مقال واحد. ولكن ربما كانت اللحظة التي تمثل قمة الكوميديا السوداء بالنسبة لي في هذا المشهد، هي استضافة المفكر الروسي ألكسندر دوجين والذي يُلقب بـ "عقل بوتين"، نظرا لعلاقته المقربة من الرئيس الروسي، على إحدى القنوات العربية وهو يبشر المجتمعات العربية بعالم أكثر ديمقراطية وعدلا عندما تنتصر روسيا على "الغرب الشرير". وحقيقة الأمر لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك من شدة عبثية هذا الطرح وأنا أسمعه. 

فدوجين صاحب الأفكار الفاشية بامتياز، والمعادي لكل أفكار الحداثة، والذي يدعو صراحة ودون أي خجل إلى دولة الرجل الواحد والأوحد، بل وأنه يقدس بوتين إلى حد العبادة، هو من يهاجم وينتقد الديمقراطية الليبرالية في الغرب ويحدثنا عن بشاعتها ويبشرنا بعصر أكثر عدالة عندما ينتصر بوتين وتنتصر معه أفكار دوجين العبثية. 

فالرجل الذي تم استضافته في عدد ليس بقليل من القنوات العربية، يؤكد في كل لقاء أن روسيا ستنتصر على الغرب ويتحدث بكل وضوح عن أن الأمر ليس صراعا على حدود وليس صراعا على انضمام أوكرانيا للناتو من عدمه، ولكنه صراع قيم. يرى فيه أن الديمقراطية الليبرالية التي يتبناها الغرب هي "الشر المطلق"، بحسب كلامه. وأن روسيا وبوتين على الأخص هو من سيخلص العالم من هذا الشر.  

وربما هنا تبدأ أن تفهم هذه الحالة من التهليل لبوتين من قِبل بعض الأصوات التي اعتادت أن تنظر للغرب عموما وللولايات المتحدة على وجه الخصوص، باعتبارهم العدو الأول للمسلمين والعرب، من باب عدو عدوي صديقي. فبوتين الذي يعادي أميركا يتحول هنا إلى بطل في نظرهم!

ولكن الحقيقة هي أن لا الغرب عدو للإسلام ولا بوتين مُخلص ولا هو سينتصر في هذا الصراع. ليس فقط لأنه وحّد الغرب والناتو ضده، وليس لأن العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة تحاصره وتضع اقتصاده تحت ضغوط هائلة، وليس لأن الحرب في أوكرانيا ستزيد من نزيف هذا الاقتصاد، وستدمر سمعة بوتين وروسيا مع كل طفل يموت دون ذنب، ومع كل عجوز أوكرانية تُجبر على ترك منزلها لتهرب بحياتها. 

ولكن لسبب أهم وأقوى في رأيي. وهو أن القيم التي يدافع عنها بوتين من قومية متعصبة وشوفينية واستبداد سياسي وأتوقراطية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنتصر على قيم الديمقراطية والحريات. 

فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتقسيم ألمانيا إلى شرقية وغربية، هرب الملايين من ألمانيا الشرقية المحكومة بالشيوعية، للغربية المحكومة بالليبرالية وليس العكس. وحتى بعد بناء سور برلين سنة 1961 ومنع الهجرة، لم تتوقف محاولات الفرار من "جنة الشيوعية" رغم خطورتها الشديدة. هذا مجرد مثال واحد من التاريخ. 

أما لو نظرنا لليوم، ففي النهاية ورغم كل هذا الضجيج، يرسل الأغنياء من كل العالم أبناءهم للدراسة في الجامعات الأوروبية والأميركية وليس الجامعات الروسية. وبالمثل يأتي المرضى للعلاج في مستشفيات الغرب. بل ويحاول كل من يحلم بمستقبل أفضل لنفسه ولأطفاله في بلادنا أن يهاجر للغرب وليس لروسيا أو الصين أو كوبا أو إيران أو كوريا الشمالية. سواء كان ليبراليا أو إسلاميا أو شيوعيا أو غير مُسيس على الإطلاق.

بل ويلقي بعض الهاربين بأنفسهم، من دول دمرتها أنظمة فاشية واستبدادية، مثل نظام بشار الأسد الذي دعمه بوتين طوال السنوات الماضية، في البحر المتوسط مُغامرين بحياتهم في محاولة يائسة للوصول إلى شواطئ أوروبا. 

كل هذا ليس صدفة، لأن الإنسان بطبعه يتوق للحرية لا الاستبداد. يبحث عن نظام يحترم ويقدس الحريات السياسية والاقتصادية والفردية والدينية والتي هي في صلب الفكرة الأساسية التي بُنيت عليها الأنظمة الغربية، حتى وإن لم يدرك أهمية وفحوى هذه الأفكار، والتي هي سر عظمة وتطور هذه المجتمعات. 

فعلى الرغم من كل الانتقادات لهذه الأنظمة، فهي بطبيعة الحال ليست مثالية، إلا أن هذه القيم قد جعلت من هذه الدول والمجتمعات الأفضل والأقوى بامتياز، وخلقت منها نموذجا مُلهما على عكس النظم الاستبدادية.

وهي أيضا نفس القيم التي تجعل من انتصار بوتين في هذا الصراع مجرد وهم، مهما هتف له بعض من حرافيش حارتنا "بوتين بوتين.. اسم الله عليه".

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.