هو يعرف تماماً أن اللبناني خائف منهم ويشعر أنه مغلوب على أمره
هو يعرف تماماً أن اللبناني خائف منهم ويشعر أنه مغلوب على أمره

طغت حماوة الانتخابات طوال الفترة الماضية على الجو العام، فانهمك اللبنانيون في غالبيتهم، في الداخل والخارج، بالتحضير لليوم الموعود.

نكهة الانتخابات اختلفت هذه المرة عن سابقاتها نظراً لما آل إليه حال اللبنانيين من تدهور غير مسبوق، فنتاج سياسات المتسلطين على البلد لم تعف أي بيت لبناني من آثارها الكارثية.

مع ذلك تنطلق الدعاية الانتخابية "للاستابليشمنت" وكأنهم ملائكة الرحمة جاؤوا للإنقاذ، ما يستفز المواطنين لاستخدامهم التضليل والبروباغندا والتلاعب بالعقول، بشكل تفوقوا فيه على دول الاستبداد حيث تطمس الحقائق، فالكذب سيد الأحكام.

والتلاعب هو فعل، أو أمر ما مؤثر بالآخرين، لضبط سلوكهم لصالح المتلاعب دون لفت الانتباه، وغالباً دون وجه حق وبشكل غير شريف. فالمتلاعب يقوم بمناورة لكي يجعل المتلقي يقوم بأمر لا يريده بالضرورة، لأنه يقصد تعديل سلوك الآخرين دون أن ينتبهوا.

لكن في الحالة اللبنانية أصبحت الألاعيب مفضوحة، إذ كيف تتباكى المنظومة نفسها المتسببة بالدمار والانهيار التام على ما وصل إليه اللبنانيون من عوز وفقر وتعدهم بالإنقاذ وبمحاسبة "المسؤولين"؟ أي مسؤولين فيما يعيدون ترشيح نفس الوجوه التي أدانتها ثورة 17 أكتوبر وحمّلتها مسؤولية الانهيار!!

وبعضهم صدر بحقهم عقوبات دولية أو أدانتهم ساحات الثورة ومنهم وزراء ومسؤولين عن الهدر الموصوف في وزارة الطاقة مثلاً والتي استنفدت نصف الدين العام لنشر العتمة.

ساد شعار "كلن يعني كلن" في البداية، الأمر الذي ضيّع البوصلة لأن المسؤولية في وصولنا إلى جهنم تتفاوت بحسب الشخص وفترة حكمه ومدى ثقل ممارساته وتأثيرها المباشر على الوضع.

لذا نجد أن انتشار الخطاب المستجد المتعلق بتحميل مسؤولية ما وصلنا إليه خلال الخمس سنوات الماضية، وخصوصاً بعد جريمة انفجار مرفأ بيروت، إلى حامي المنظومة الأول بسلاحه الموضوع على الطاولة، أي حزب الله، صار يثير حفيظة السيد نصر الله فيفجّر غضبه ويخرجه عن طوره، ليخصص قسماً كبيراً من خطابه إلى هذا البعض الذي "أخذ من سلاح المقاومة عنوانًا للمعركة الانتخابية ولم يلتفت لهموم الناس". ذلك أنه اكتشف عبر "اللجان التي أجرت استطلاع رأي في الــ15 دائرة انتخابية كان همّ غالبية الناس فيها معالجة الوضع المعيشي من غلاء أسعار وكهرباء ومحروقات وتحسين الرواتب ومكافحة الفساد والبطالة واسترداد أموال المودعين وغيرها وليس معالجة سلاح المقاومة"!!

فنستبشر خيراً أنه التفت أخيراً لمشاكل الناس وحاجاتهم، وسوف يقدم علاجاً لها، كأن يقترح حلاً او برنامجا  لمساعدتهم أو يختار مرشحين جدد غير متهمين بالفساد. لكن استجابته كانت الإهانة والتهديد: "فشروا أن ينزعوا سلاح المقاومة"، معتبراً مناسبة الانتخابات، مواجهة ترقى إلى حدود حرب تموز نفسها.!!

فبدل أن يسأل نفسه لماذا انهارت صورته مع حزبه، إذ يكفي المرشح أن يعلن رفضه للسلاح خارج الشرعية وللهيمنة الإيرانية حتى يجد آذاناً صاغية، نجده يعلن الحرب على اللبنانيين المطالبين بحقوقهم وباسترجاع دولتهم. سلاح حزب الله الذي لم يحم لا ودائع الناس ولا لقمة عيشهم ولا صحتهم ولا منع هجرتهم، يقترحه حلاً للمشاكل، بينما يمعن باستخدامه للقمع والتهديد بدءاً من بيئته المتململة وصولاً إلى المعارضين. من هنا نعرف سرّ منعه إقامة "الميغاسنتر" التي تسهّل الاقتراع الحر، بحجة عدم توفر الوقت والمال اللذان توفرا في بلاد الاغتراب.

إن زعم أن السلاح الطائفي والمذهبي، غير الشرعي المملوك من إيران، يوفر مقومات الحماية من العدو (بينما يحرس حدوده بموجب القرار 1701 الذي أبرمته الدولة اللبنانية) مجرد تضليل وهروب إلى الأمام، لأن الحماية التي يطلبها المواطن الآن هي حمايته من المرض والفقر والجوع والأمية والذل، فليست إسرائيل التي منعت السلطة المحتمية به من تأمين الكهرباء والماء والدواء والمستشفى والرغيف والتعليم، ولا هي التي قطعت علاقات لبنان مع العالم وأرسلته لمحاربة الأشقاء العرب وجعلته مصنع مخدرات.

فأي حرب يمنعها سلاحه؟ حرب في الجنوب الذي يبدو أكثر المناطق التي تنعم بالأمن والازدهار وبحركة البناء التي لا تتوقف على الحدود المتاخمة لإسرائيل؟

ولنسلم جدلاً أن ما يهمه حماية اللبنانيين وأمنهم، فلماذا إذن يحمي سلاح المخيمات؟ ولماذا يستضيف قادة حماس الذين يهددون بحرب إقليمية تتعدى حدود القدس؟ من أين سيشنون هذه الحرب الإقليمية؟ من سوريا أو الأردن؟ أو من لبنان الذي يساعدهم على التمركز فيه واستخدامه منصة إيرانية عند الحاجة؟

لقد أشار مهند الحاج علي في مقالته في "كارنيغي" إلى "إعادة إحياء عرفات في بيروت"، إن حركة "حماس"، بمساندة "حزب الله"، تسعى إلى تعزيز وجودها العسكري في لبنان، ما قد يؤدّي إلى تداعيات فادحة، ولهذا السبب، أعادت زيارة القيادي في حماس إسماعيل هنية إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان في صيف العام 2020 ، هواجس اللبنانيين وذكرتهم بزمن الحرب الأهلية وفواجعها.

إن حصر الكرامة بتحرير الأرض والأسرى "بكرامة وعزّ"، هو تضليل آخر. اللبناني الفاقد لكرامته يعيش الآن أكثر لحظات تاريخه إذلالاً ومهانة.

فماذا تقدم جهوزيته لإعلان الاستنفار العسكري الشامل تجاه المناورات العسكرية الإسرائيلية لهذا المواطن؟ وبماذا يفيده استعداد الحزب لمنع إسرائيل من التنقيب عن النفط، بحال منعت لبنان من التنقيب في مياهه!! هل إسرائيل التي تمنع التنقيب عن النفط أم تخبط اللبنانيين!؟ هل رفعه السقف في ملف ترسيم الحدود، واعتبار الوسيط الأميركي غير نزيه سيحقق نتائج للبنان!! فأي وسيط يريد؟ وهل في متناوله؟ أم أن المزايدة وتعطيل الترسيم هو الذي سيوفر "استغلال ثروات النفط والغاز الهائلة  المقدرة بعشرات مليارات الدولارات" الطامعين بها!!

إنه التضليل المتذاكي، ففي الوقت الذي يحقِّر فيه اللبنانيين ويهددهم ويتوعدهم ويمنع ترشيح معارضين من بيئته ويوزع الإهانات، يزعم في نفس الوقت أنه لا يملك "مشاريع غلبة فلا تخافوا من هذه الثنائية"!

إذن هو يعرف تماماً أن اللبناني خائف منهم ويشعر أنه مغلوب على أمره، وإلا كيف تكون الغلبة إذا لم تكن ما يخبرنا به الناطقون باسم حزبه من أن نتائج الانتخابات ووجود أكثرية معارضة لهم لن تغير شيئاً كما لم تفعل من قبل؟ طبعاً لاستقوائهم بشعار التوافق الخادع وحق الفيتو الذي فرضوه على اللبنانيين.

لا أدري ماذا سينتج عن هذه الانتخابات، وهل سيدخل الندوة البرلمانية دماً جديداً يساهم بوضع أسس الخلاص مما نحن فيه عبر النضال والنفس الطويل.

لكني أعرف أن قراءة نتائجها يجب أن تكون بطريقة متعددة تتضمن العد السلبي، أي ليس احتساب نسبة الاقتراع للناجحين من المعارضة فقط، بل أيضاً جميع الأصوات التي اقترعت للقوى التغييرية المتشرذمة على أنواعها. لأن كل من اقترع لها يكون قد اقترع ضد الثنائية وحلفائها. وبهذا يمكن تقدير حجم الاعتراض على المتحكمين برقاب اللبنانيين من عدمه.

معركة تحرير لبنان واستعادة سيادته طويلة وهذه مجرد جولة.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.