بفارق أربع وعشرين ساعة، التأمت في عمان، ورشتا عمل، واحدة مفتوحة والثانية مغلقة، الأولى تناولت المشهد الفلسطيني وانعكاساته على الأردن، مع تركيز خاص على العلاقات الأردنية – الإسرائيلية، والثانية، خَصصت مداولاتها للحديث عن "ساعة الحقيقة" في هذه العلاقات، في إشارة إلى اقترابها من "مفترق" لن يكون ما بعده كما قبله.
الورشتان من تنظيم مركزي دراسات وأبحاث، حديثين نسبياً، ومقربين بهذه الدرجة أو تلك، من مراكز صنع القرار في الأردن، والمشاركون فيهما، توزعوا ما بين مسؤولين كبار سابقين، رؤساء حكومات ونوابهم ونواب وأعيان، وكتاب ومحللين سياسيين من أطياف مختلفة، في دلالة على الأهمية القصوى المتزايدة، التي تحظى بها هذه القضية في قلب جدول الأولويات الأردنية.
لا يخفى على أحد، أن انفراجاً نسبياً كان طرأ على العلاقات بين الأردن وإسرائيل بعد رحيل حكومة بنيامين نتنياهو، ومجيء حكومة الائتلاف بزعامة الثنائي بينت – لبيد ... لكن هذا الانفراج، سيشهد تطوراً سلبياً متسارعاً خلال شهر رمضان المبارك، وارتفاع حدة المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتزايد عمليات القتل والاعتقال في صفوف الفلسطينيين، والتي بلغت ذروة دامية باستشهاد شرين أبو عاقلة، الصحفية المرموقة في قناة الجزيرة، قبل أن تدخل هذه العلاقات، في نفق التراشق المتبادل، على خلفية تصريحات بينت التي تنكّر فيها للرعاية الهاشمية للمسجد الأقصى، وتهديدات بعض المسؤولين الإسرائيليين، وإن كانوا "سابقين" بتحويل الأردن، إلى "دولة فلسطينية".
على أن البحث في الورشتين المذكورتين، تخطى اللحظة الراهنة بتداعياتها وارتداداتها المباشرة، إلى ما يمكن وصفه بمراجعة أشمل للقواعد المؤسسة لهذه العلاقات، والفرضيات التي تحكمها، والرهانات التي تُبنى عليها، فيما يمكن اعتباره، إعادة نظر جذرية في راهن ومستقبل هذه العلاقات:
الفرضية الأولى: وتقول، إن إسرائيل اليوم، ليست إسرائيل التي أَبرم الأردن معها معاهدة السلام في العام 1994، ذلك أن مياهاً كثيرة قد جرت في أنهار المنطقة، ما انفكت معها إسرائيل تنزاح صوب التطرف الديني والقومي، وأن مكانة "لوبي الاستيطان" في صنع السياسة الإسرائيلية، والمتطرفين "الحريديم" قد تزايدت كما لم يحدث من قبل منذ بدء الصراع العربي – الإسرائيلي....بهذا المعنى يبدو الانقسام الجوهري في إسرائيل اليوم، بين يمين متطرف وآخر أكثر تطرفاً، فالحكومة يطغى عليها المكون اليميني، والمعارضة يجلس اليمين على معظم مقاعدها، وليس منظوراً في المدى المرئي أن يتأتى عن أي انتخابات إسرائيلية، مبكرة أو في موعدها، انقلاباً في المشهد الإسرائيلي، فالمشكلة تكمن في التحولات البنيوية للمجتمع الإسرائيلي، وليس في الطبقة السياسية وحدها.
الفرضية الثانية: تقول، إن أمن الأردن جزء من أمن إسرائيل، وأن مصلحة الأخيرة تتطلب حفظ أمن الأردن واستقراره ... هذه الفرضية، يجادل البعض بأنها كانت صحيحة طوال سنوات وعقود، وأنها ما زالت صالحة حتى يومنا هذا، في حين يرى البعض أن صلاحية هذه الفرضية قد انتهت منذ أن تكرس "الانقلاب اليميني" في إسرائيل، بيد أن ثمة كتلة متزايدة من الأردنيين (87 بالمئة من الأردنيين)، في الدولة والمجتمع، بدأت ترى أن تهديد أمن الأردن واستقراره، بات مصلحة إسرائيلية، وأنه يمكن أن يكون طريق هذا اليمين الوحيد للخلاص من "فائض الديموغرافيا" الفلسطيني، سواء بالترانسفير الذي لم يعد مستبعداً بالكامل، أو من خلال صيغ فيدرالية أو كونفدرالية مفروضة، تُخرج غالبية الفلسطينيين العظمى من مظلة السيادة الإسرائيلية، مع أقل مساحة ممكنة من أرض الضفة الغربية، وبالذات منطقتي "أ و ب" بموجب تقسيمات أوسلو، والتي لا تزيد عن 40 بالمئة من إجمالي مساحتها.
الفرضية الثالثة: وتقول، أن معاهدة السلام التي ظن مبرموها أنها "دَفَنت" الوطن البديل ومشاريع التوطين، مرة واحدة وإلى الأبد، لم تعداً سدّاً منيعاً في مواجهة هذه المشاريع، بيد أنه من الصعب على الأردن، في هذه المرحلة بالذات، التي تتميز بانتعاش "مسارات التطبيع الإبراهيمية"، أن يتخلى عن هذه المعاهدة، أو أن يُقدم على إلغائها من جانب واحد، سيما وأن خطوة كهذه، سيكون لها انعكاسات ضارة على العلاقات الاستراتيجية الأردنية – الأمريكية ... لذلك تميل وجهات النظر، إلى جعل إلغاء المعاهدة، آخر المعالجات الأردنية، وليس أولها، ولكن من دون الركون إلى الأوهام السابقة، والتعويل على دورها كجدار صدَ دفاعي عن الأردن، وطناً وكياناً وهويةً.
الفرضية الرابعة، وتقول، إن الأردن سيجد نفسه في مسار تصادمي مع إسرائيل، إن هو استمسك بحقه في الرعاية الهاشمية للمقدسات، وإن هو ظل على موقفه المؤيد بقوة لخيار "حل الدولتين" والقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية ... ولهذا السبب، انصب الاهتمام على عدم تكريس "الاعتمادية" الأردنية على إسرائيل، بالذات في المجالات الحيوية – الاستراتيجية كالغاز والطاقة والمياه والكهرباء والغذاء. إن أخطر ما يمكن أن تستنجه الحكومة الإسرائيلية، هو النظر إلى المواقف وردود الأفعال الأردنية، بوصفها "مضمونة"، ولن تتعدى الإطار اللفظي، من تصريحات سياسية وإعلامية، وإن على إسرائيل، أن تدرك أن مراعاة حسابات الأردن وحساسيات، هو شرط لإقامة علاقات طبيعية بين الجانبين، وبخلاف ذلك، فإن هذه العلاقات، معرضة للتهديد ... هذه واحدة من أبرز خلاصات الورشتين المذكورتين.
الفرضية الخامسة، وتقول، إن الأردن يعوّل كثيراً على استعادة علاقاته بواشنطن عافيتها في ظل إدارة بايدن، بعد سنوات أربع عجاف تحت قيادة دونالد ترامب، وأن عمّان، تراهن على واشنطن لتدوير الزوايا الحادة في المواقف الإسرائيلية...ثمة قناعة عامة، لدى نخب أردنية متزايدة، مفادها عدم جواز الرهان بأبعد مما ينبغي على إدارة بايدن، فليس لدى الأخيرة الرغبة والاستعداد، الوقت والجهد، لاستثمار ما يكفي من موارد، من أجل الضغط على إسرائيل، لدفعها لاحترام الرعاية الهاشمية، والذهاب إلى مسار تفاوضي ينتهي إلى "حل الدولتين"، فجُلّ ما تنشغل به هذه الإدارة في المرحلة، هو "تثبيت التهدئة" على محور غزة من جهة، وتفعيل "إجراءات بناء الثقة" على محور القدس والضفة من جهة ثانية.
الفرضية السادسة، وتقول، إن على الأردن على أن يعمل على بناء عناصر القوة والاستعداد لمواجهة مخاض صعب في علاقاته مع إسرائيل في قادمات الأيام ... تبدأ بتقليص اعتماديته على إسرائيل، وتمر بحشد التأييد لمواقفه ومقارباته، عربياً ودولياً، ولا تنتهي بتعزيز جبهته الداخلية لتفادي أية ضغوط غير مرغوبة في المرحلة المقبلة.