سيدتان قرب نقطة تفتيشية في قطاع غزة (تعبيرية)
سيدتان قرب نقطة تفتيشية في قطاع غزة (تعبيرية)

في لقاء على القناة الأولى بالتلفزيون المصري استضاف الإعلامي، يوسف الحسيني، الشيخ الأزهري، أحمد كريمة، وسأله: هل يحق للرجل المغترب أن يتزوج بامرأة ثانية في بلد الغربة؟ والحقيقة أن تصريحاته كانت صادمة لي ولكثيرين وخلقت حالة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي على مدار اليومين الماضيين. 

فالشيخ كريمة قال: "إن على الزوجة أن تعين زوجها على الزيجة الثانية لحمايته من الفاحشة". ووجهة نظره أنه لو لن يتمكن الرجل من لقاء زوجته بانتظام، مرة كل أربعة شهور على الأقل بحسب تصريحاته. فيحق له الزواج بامرأة ثانية ليعف نفسه وليس من الضروري حتى إبلاغ الزوجة الأولى بذلك، حتى يتجنب "الصراع الزوجي" على حد تعبيره. 

ولدي هنا ثلاث نقاط محددة للتعليق على تصريحاته. أولا: لقد برر الشيخ حق الرجل في الزيجة الثانية من منطلق تجنب الوقوع في المعصية. ولكن السؤال الذي طرأ بذهني هو، وماذا عن الزوجة كيف تعف هي نفسها؟ فقد استمعت للنقاش بينه وبين يوسف الحسيني مرتين، محاولا أن أجد حتى ولو جملة وحيدة يتحدث فيها عم تفعل الزوجة بخصوص احتياجاتها لو تزوج رجلها من امرأة ثانية؟ فلم أجد. 

وهنا الدكتور كريمة لم يفاجئنا بل كعادته، هو يتبع المنهج الأصولي في التفكير بجدارة. فالعقل الأصولي أو السلفي لا يعترف من الأساس باحتياجات وحقوق المرأة، هو عقل يرى الحياة والحقوق والواجبات من عيني الرجل فقط. 

ثانيا: الشيخ كريمة، قال إن الشرع لم يطالب الرجل بإعلام زوجته الأولى بخبر زواجه من الثانية، ولكن الزواج في الأصل مبني على الإشهار والإعلان، فكيف لا يتم إعلام الزوجة الأولى وهي المتضررة الأولى من هذه الزيجة. لاحظ أننا لا نتحدث هنا عن استئذان الزوجة الأولى ولكن فقط إعلامها بالخبر، ومع ذلك لا يرى الشيخ كريمة أنه حتى من حقها أن تعرف هذه المعلومة. 

ثالثا: طالب الشيخ من الزوجة أن تساعد زوجها في تتميم الزيجة الثانية، معللا ذلك أنه حتى لو تسبب لها ذلك من ألم ومشاعر غيرة، فإن عليها أن تنظر إلى طاعة الله والأحكام الدينية لتتغلب على هذه المشاعر!

ما قاله الشيخ كريمة هو بيان عملي على كيف يفكر العقل الأصولي، فهذا العقل هو الذي دعا وبرر وشرع ختان الإناث (تشويه الأعضاء التناسلية للإناث) لعقود تحت مبررات دينية، رغم دعاوى بل وصرخات الأطباء ونشطاء حقوق المرأة والطفل لسنوات وسنوات ضد هذه الممارسة الوحشية.

منذ بدأت هذه الحملة الدكتور نوال السعداوي في سبعينيات القرن الماضي، ولعقود من بعدها، هاجم الكثيرون الممارسة في حين رفضت المؤسسة الدينية التجاوب وتمسكت بموقف فقهي جامد ومتزمت، إلى أن غيرت من موقفها في 2006 في الفتوى الشهيرة التي خرجت عن الأزهر والتي حرمت هذه الممارسة. 

هو أيضا العقل الذي رفض حق المرأة في الخروج للعمل والدراسة، لعقود طويلة في الماضي، بحجة أنها ستفتن الرجال. وهو نفس العقل الذي رفض في السعودية وحتى خمسة أو ستة أعوام ماضية حق المرأة في قيادة السيارة بحجة أن قيادتها للسيارة ستسهل عليها الخلوة بالرجال، حتى جاء ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، فاكتشف الشيوخ فجأة أن قيادة المرأة للسيارة حلالا بينا. 

هذا العقل الأصولي لا يتعامل مع المرأة ككائن متساوٍ في الحقوق والواجبات، رغم كل الشعارات التي عادة ما يستهل به كلامه عن كيف كرّم الإسلام المرأة، ولكن عند التطبيق تجد أمراً مختلفاً تماماً. والحقيقة أن شعار "الإسلام كرم المرأة" لا يستخدم في هذه النقاشات جزافا. بل هو حيلة دفاعية شهيرة، تهدف إلى تحصين تفسير صاحب هذا الرأي من أي انتقاد. فمن أنت لتنتقد الإسلام؟ ومن تكون لتعارض ما يقوله من يعبر عن الإسلام؟ 

هذا العقل الأصولي لا يعترف بفكرة سعادة الإنسان أو الضرر العاطفي الذي يقع عليه. هو يرى في النص وتفسيراته، الماضوية المتزمتة التي لا تراعي تطورات الزمن، الكمال المطلق. يعادي إعمال العقل ولا يرى فيه إلا الازدراء أو الهرطقة. ويحاربه بكل طريقة ووسيلة، حتى وإن وصل الأمر للتكفير وإباحة الدماء. 

هذا العقل موجود في كل الأديان. فمنذ أيام قليلة كتبت مقالا عن المسكينة، ماري مجدي، والتي ضربها زوجها بلوح خشبي على رأسها وأنحاء متفرقة من جسدها في محاولة لقتلها.

والحقيقة لم تدهشني أن بعض التعليقات تطالب هذه المسكينة بتحمل زوجها المجرم الحقير كنوع من التضحية الدينية من أجل تقديس النص أو بمعنى أدق تقديس العقيدة الكنسية الأرثوذكسية التي أرساها البابا شنودة الثالث والتي ترفض طلاق المسيحيين إلا في حالتي إثبات الزنا وتغيير الديانة. 

الحالتان متشابهتان للغاية لو دققت يا عزيزي. فعلى الزوجة في الحالتين أن تبتلع ألمها النفسي الرهيب والقادر على تدمير حياتها ونفسيتها، وأن تتجاهل مشاعر الذل والقهر والمهانة الشديدة من أجل النص. فالعقل الأصولي يعتقد أن الإنسان خُلق من أجل النص، وليس النص من أجل الإنسان.

ولهذا لا يطيق العقل الأصولي المجددين لأنهم يربكوه بشكل يفوق قدراته. ولذا فهي ليست مصادفة أن الشيخ كريمة الذي رفض بشدة دعوة الرئيس، عبد الفتاح السيسي، لتقييد الطلاق الشفهي وتقنين الطلاق بجعله مكتوباً من خلال مأذون لضمان حق آلاف النساء اللاتي يتضررن بشدة من فكرة الطلاق الشفهي. هو نفس الشخص الذي خرج علنا ليكفر الإعلامي والكاتب الكبير، إبراهيم عيسى. وهو نفس الشخص الذي ينادي بخداع الزوج لزوجته وكذبه عليها تحت مسميات دينية، فهذا هو ببساطة العقل الأصولي.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.