حسن الترابي مع عمر البشير
حسن الترابي مع عمر البشير

تعتبر فكرة استخدام القوة من أجل إحداث التغيير السياسي والاجتماعي من الأفكار الجوهرية التي ينبني عليها المنهج الذي تتبناه جماعة الإخوان المسلمين، ذلك على الرغم من إدعاء الجماعة أنها تتوسل للسلطة بالرفق والحسنى، وهو إدعاء يتم تغليفه بالتمويه والتضليل والكذب الذي يطلقون عليه مسمى (إيهام القول للمصلحة). 

شاركت الجبهة القومية الإسلامية (الفرع السوداني لجماعة الإخوان) في التجربة الديمقراطية الثالثة في السودان (1985-1989) حيث خاضت الانتخابات العامة ونجحت في أن تصبح الكتلة البرلمانية الثالثة من حيث عدد النواب، وقد أبدى قادتها حينها تمسكا ظاهريا بالنظام الديمقراطي وبضرورة الحفاظ عليه والدفاع عنه في وجه الانقلابات العسكرية.  
وقال الأمين العام للجبهة القومية الإسلامية الدكتور حسن عبد الله الترابي في خطابه أمام المؤتمر التأسيسي للجبهة بالخرطوم في 19 يوليو 1985 : 

(إننا لندعو إلى أن تتوافق كل الأحزاب السياسية على مباديء عليا، تضبط علاقات، وتبسط الخلاف، وذلك بالتزام الديمقراطية والشورى والعلن في البناء والأداء الحزبي والسياسي وفي التنظيم الدستوري الحكومي. ولتتواصل جميعا بمراعاة روح التسامح والاعتدال، وإدانة سياسة اللجوء للعنف والإرهاب والفتنة والصراع المسلح ،وإننا لندعو لاستئصال كل الكيانات شبه العسكرية والمليشيات المسلحة. دعونا نترك أمانة السلاح لدى قواتنا المسلحة وحدها بالقوة الكافية اللازمة ونحرص من بعد على قوميتها واستقلالها وانضباطها ونكف جميعا عن التدخل فيها). 

كما جاء في دستور الجبهة القومية الإسلامية أن من خصائصها : (أنها جبهة مترفقة في دعوتها تسعى لأهدافها بالإقناع والحسنى بالتعبئة الطوعية في حرية وسماحة وتؤمن بالإصلاح المطرد المتدرج في الأطر والمؤسسات الاجتماعية حيث يتم التحول إلى الإسلام دونما فتنة أو ضر قد يترتب على تغيير خطير مفاجئ لم تتهيأ له النفوس أو تتيسر له الأسباب ولكنها في ذلك تسعى للإصلاح الشامل المتكامل الذي يتجاوز التبعيض والترقيع ويتحلى بالالتزام الصادق الذي لا يقبل التسويف والتزييف كما تدعو بالتي هي أحسن وتؤمن بالجهاد الصابر الثائر في وجه الاستبداد الذي يريد أن يطفئ نور الله يمنع الإصلاح والخير ويكبت إرادة الشعب المسلم ويفرض الظلم والعلو والفساد في الأرض). 

قال الترابي كلامه أعلاه عن ضرورة الحفاظ على قومية واستقلال الجيش والحرص على عدم تدخل الأحزاب السياسية فيه بينما كان في نفس الوقت يحتفظ بتنظيم عسكري كامل يتبع للجبهة القومية الإسلامية داخل الجيش ويعُد العُدة للانقلاب على النظام الديمقراطي الذي يشارك في برلمانه وحكومته، ولا تفسير لذلك سوى أن منهج جماعة الأخوان لا يؤمن إلا بالقوة والإقصاء والسيطرة المطلقة على السلطة بأية وسيلة وإن أظهر خلاف ما يبطن. 
في سلسلة حواراته مع الإعلامي أحمد منصور في برنامج "شاهد على العصر" بقناة الجزيرة إعترف الترابي أنهم أعدوا خطة متكاملة للاستيلاء على السلطة منذ عام 1977، وأن المهمة الوحيدة التي أوكلت لمجلس شورى الجماعة تتمثل فقط في "تدبير الأمر" أي الإعداد للانقلاب ولم تك لديه أية مهام أخرى، وأن هدف الخطة هو بحسب رأس الجماعة (أنه لا بد أن نتمكن يوما في الدولة). 

وعندما سئل السؤال التالي : ماهى أجهزة الدولة التي عمل فيها جهازكم السري الخاص؟ أجاب بالقول: (كل الأجهزة، منها العسكري وجهاز الأمن نفسه وجهاز الشرطة وأجهزة الدولة والأجهزة الخارجية). 

وأضاف الترابي أن التنظيم العسكري للجماعة داخل الجيش كان به (مائة وخمسون ضابطا) تتواصل معهم مجموعة قيادية محدودة من الجماعة مكونة من (على عثمان محمد طه، يس عمر الإمام، على الحاج محمد، عوض أحمد الجاز، عبد الله حسن أحمد، إبراهيم السنوسي). 

من جانبه، قال مؤرخ الجماعة والعضو القيادي فيها الدكتور حسن مكي في كتابه "لمحات من مسيرة الحركة الإسلامية" أن الحركة : (اتخذت لنفسها خطا وجدول أعمال حسب ما عرف داخليا أي داخل أجهزة الحركة باستراتيجية التمكين. والتي قامت على تنمية القدرات الذاتية وتنمية أجهزة الشوكة في الحركة بحيث تستطيع وحدها حينما تجيء اللحظة التاريخية المناسبة الاستيلاء على السلطة السياسية بقدرتها الذاتية). 

العمود الفقري لاستراتيجية التمكين التي أشار إليها مكي هو "تنمية أجهزة الشوكة" أي السلاح والقوة وليس العمل الجماهيري الدؤوب الهادف لخلق شعبية يمكن الاستناد إليها لكسب الانتخابات في العملية الديمقراطية، وبالتالي يمكننا القول باطمئنان إن هدف الجماعة الأساسي كان الوصول للحكم بالقوة، وليس عن طريق صندوق الاقتراع. 

أما طبيعة التنظيم العسكري للأخوان داخل الجيش، فيقول عنها مكي: (كان تنظيما مستحكما ليس فقط لا يعرفه عامة وصفوة الإخوان، بل أن جماعات هذه الخلايا العسكرية لا يعرف بعضهم بعضا الا اجتهادا). 

نحن هنا بإزاء مفارقة هائلة بين الأقوال والأفعال، فبينما تدعو الجماعة في العلن للحفاظ على استقلالية الجيش، نجدها تنشئ تنظيما سريا داخل الجيش من أجل القيام بالانقلاب العسكري، وبينما يقول دستورها أنها جماعة :(مترفقة في دعوتها تسعى لأهدافها بالإقناع والحسنى بالتعبئة الطوعية في حرية وتؤمن بالاصلاح المطرد المتدرج) فإنها في أرض الواقع تتبنى الأسلوب العنيف في التغيير وتفرض أفكارها وتوجهاتها بقوة السلاح ! 

قد أثبتت التجربة العملية أن فكرة استخدام القوة عند الإخوان المسلمين تستمد مشروعيتها من المفاهيم و التصورات والعقائد التي قامت عليها الجماعة وتأسست عليها مباديء الدعوة، وهى تصورات تجعل من العنف والإقصاء ضرورة لازمة و أمرا لا غنى عنه في سبيل الوصول والسيطرة على الحكم وتطبيق المنهج الرسالي/الكوني الذي يطمح للسيطرة على العالم.

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.