مبروك عطية
بدأ كلامه بأن المشكلة فمن يروجون لحرية المرأة، وليست في المجرم الذي قتلها!- ماهر جبره

"الشنطة فيها كتاب دين" هي جملة غالبا سيفهمها فقط المصريون من جيل السبعينيات والثمانينيات. ببساطة هي حيلة للهروب من أي شجار أو مواجهة كان الأطفال يستخدمونها ونحن صغار في المدرسة، حتى صارت نكتة عندما كبرنا. بمعنى أنه لو هاجمك شخص أقوى منك وحاول ضربك، تحتمي بشنطتك المدرسية. 

وعندما يحاول أن ينزعها ويلقيها على الأرض حتى يبدأ العراك، تصرخ بأعلى صوتك: الشنطة فيها كتاب دين. فلو أصر وهاجمك فهو هنا يهاجم الدين، فينقلب عليه باقي الزملاء وتكسب المبارزة دون أي عراك حقيقي. 

هذا ما يفعله بالضبط مبروك عطية الآن. فبعد حادث مقتل نيرة أشرف البشع، والذي هز ضمير المجتمع المصري بأكمله. حيث ذبح شاب مجرم زميلته في جامعة المنصورة، لأنها ببساطة رفضت الارتباط به وهو حقها المشروع والبديهي. خرج علينا مبروك عطية في عدد من الفيديوهات اللايف على موقع اليوتيوب ليقدم تحليله للموقف ونصائحه للبنات والسيدات المصريات، مقدما خطاب حمل العديد من الرسائل الكارثية بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

أولا وقبل أي شيء اعتاد عطية على استخدام لهجة أشبه بالردح، عندما يتحدث إلى النساء مستخدما لهجة تختلط فيها الرجعية الفكرية بالوصاية الأبوية والذكورية، مع بعض التحابيش والألفاظ التي تفتقر إلى الحد الأدنى من الكياسة واللياقة. مخاطبا سيدات مصر بألفاظ مثل "يا بت"، ظنا منه أنه يتقرب للمشاهد بهذه الطريقة.

ثانيا: انتقل بالخطاب الديني المتطرف من مستوى عبد الله رشدي في تبرير التحرش الجنسي بلبس المرأة، إلى مستوى جديد من تبرير القتل والذبح أيضا بحجة لبس المرأة. حيث طالب نساء مصر بارتداء "قفة" عند الخروج للشارع وكأن مصر هي أفغانستان تحت حكم طالبان، قائلا: "يهفهف "في إشارة إلى الشعر" عشان مين يشوفه يا بت؟ والمقمط علشان مين يشوفه يا بت؟ حياتك غالية عليك.. اخرجى من بيتكم قفة.. لا متفصلة ولا بنطلون ولا شعر على الخدود.. ليه؟ هيشوفك اللى ريقه بيجرى ومامعهوش.. هايدبحك.. يالا خليه يدبحك!"  

وللأسف الشديد فقد عانت نساء مصر على مدار العقود الماضية من ترويج لثقافة لوم المرأة حين تتعرض للتحرش أو العنف تحت ستار الدين. فما قاله مبروك عطية وما سبب حالة الغضب الشديد، هو ما يقوله بعض رجال الدين منذ عقود بكل أسف. ولكن قدمه هو بأسلوب فج جدا، فأثار غضب الكثيرين. 

فقد بدأ كلامه بأن المشكلة فمن يروجون لحرية المرأة، وليست في المجرم الذي قتلها! فمن وجهة نظر مبروك عطية ومن يتبنون نفس رأيه وهم كثيرون، أن المشكلة هي في منح المرأة المصرية القليل من حقوقها، وليست في غياب الثقافة والآليات القانونية الرادعة اللازمة لحمايتها. ولهذا تركز كلامه على لبس الفتاة وخروجها من منزلها بدون حجاب. وليست في عدم قيام الشرطة بواجبها، وتقاعسها الشديد عن أداء دورها في حماية مواطنة مصرية استنجدت بها من حوادث التحرش المتكررة على مر سنتين دون أدنى إجراء لردع المعتدي.

فبدلا من توجيه النقد للثقافة التي تضع المرأة دائما في خانة المتهمة حتى عندما تُذبح ذبحا في الطريق العام وفي وضح النهار وهي في طريقها لأداء امتحاناتها بالجامعة، وبدلا من محاسبة من قصّر من رجال الأمن في حماية هذه الفتاة، وبدلا من تعديل الآليات القانونية لتحقيق حماية حقيقية لنساء مصر واللاتي يتعرضن للتحرش والعنف بمعدلات مرعبة. فالتحرش بالنساء في الفضاء العام هو ممارسة يومية نراها كلنا في الشوارع والمواصلات والإنترنت أيضا. بدلا من كل هذا، نلوم الفتاة نفسها، لنذبح أهلها مرة أخرى بهذا الكلام. 

وكأن علاج هذه المشكلات لا يتم إلا بمزيد من قمع المرأة، من خلال إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. فهيا بنا نعود بمصر إلى القرن التاسع عشر، ولنبدأ النضال من أجل تعليم الفتيات القراءة والكتابة مرة أخرى حتى يرتاح الشيخ مبروك.

قصة الفتاة المسكينة نيرة، التي فشلنا كمجتمع في حمايتها، تعود لسنة 2020 بحسب كلام والدها، حيث تعرّف عليها هذا المجرم من خلال الدراسة كزميل ويبدو أنه قد أعجب بها وحاول التقرب منها، فرفضته وصدته. ولكنه لم يتوقف، وظل يطاردها ويرسل لها التهديدات على مدار سنتين كاملتين. ورغم أن الأب قام بعدة بلاغات للشرطة، إلا أن الطالب لم يُحاسب ولم يُحبس رغم جرائم التعدي المتكررة عليها. فالاستهانة ببلاغات التحرش بالنساء هي جزء من ثقافة مجتمع لا يرى في هذه التصرفات ما يستدعي المحاسبة أو العقاب. وعليه ففي أغلب الأحيان لا تتعامل معها الشرطة بجدية إلا بعد فوات الأوان، كما في هذه الحالة. 

هذا المناخ المتسامح جدا مع جرائم العنف ضد النساء خلقه وبكل صراحة وبدون أي مواربة أو تجميل، ثقافة رجعية منغلقة سلفية متشددة تم الترويج لها على نطاق واسع جدا خلال العقود الماضية. ثقافة تُحمّل المرأة مسؤولية العنف أو التحرش. 

بداية من شعارات مثل "ينتهي الغلاء عندما تتحجب النساء" والتي ملأت جدران الشوارع والحواري، لتضع وزر مشاكل البلاد الاقتصادية على امرأة اختارت عدم الحجاب، مرورا بكثير من الخطب الدينية التي لا ترى في المرأة سوى مصدرا للشهوة يجب قمعه بكل الطرق، ويجب تقييد حركته وحياته. وانتهاء بنجم مواقع التواصل الاجتماعي في الترويج للطائفية وكراهية المرأة عبد الله رشدي، والذي لا يفوّت حادثة إلا ويهاجم فيها المرأة ويرمي باللوم عليها في كل صغيرة وكبيرة. 

هذه الثقافة ليست حادثة فردية، وهذا الخطاب الذي قدمه عطية لم يكن مجرد زلة لسان. ففي حلقة موجودة على اليوتيوب بتاريخ 20 أكتوبر2021، على قناة الإم بي سي، والتي تفرد مساحة كبيرة جدا للسيد عطية، خرج في لقاء مع الإعلامي شريف عامر مع امرأة تتعرض للعنف الأسري البالغ والذي يمكن وصفه قانونا بالتعذيب حيث تحدثت المرأة عن استخدام زوجها للكرباج في ضربها باستمرار. ليكون رد عطية عليها: "هناك قاعدة في العلم وهي أن النساء مبالغات في الشكوى" وحقا لا أعرف عن أي علم يتحدث؟! فضلا عن أنه ظل طول الحلقة يحاول أن يجد مبررات لعنف الزوج وأن يتفه من شكوى الضحية، كما لو كان ضرب زوج لزوجته بالكرباج خطأ تافه لا يستحق التوقف عنده! 

نظرية مبروك عطية لحل مشكلة العنف ضد المرأة بسيطة وواضحة.. ففي رأيه المشكلة هي في الحرية والحل يكمن في مزيد من القمع للنساء. فالمجال العام والقانون لابد أن يخدم الرجل حتى لو كان متحرشا أو معنّفا، وعلى النساء التكيف مع هذا الوضع بلبس القفة أو بتحمل العنف في صمت. 

هذا الأفكار ليست فقط تنكر على مواطنات مصريات حقوقهن، وتحرض على مزيد من العنف ضدهن. إلا إنها أفكار أثبتت فشلها بجدارة، فمصر قبل انتشار الحجاب والنقاب لم تكن تنتشر فيها ظواهر التحرش، بل على العكس انتشرت بعدها. ومع ذلك لو هاجمت هذه الأفكار الرجعية ستكون في نظر كثيرين تهاجم الدين.

فالاحتماء بقدسية الدين للهروب من أي مسؤولية عن تصريحات أو فتاوى تؤثر في وتشكل وعي ملايين المواطنين هي ظاهرة متكررة وقديمة، والأمثلة عليها لا تعد ولا تحصى. فعندما خرجت د.مايا مرسي رئيسة المجلس القومي للمرأة، وهي الشخص المسؤول من قبل الدولة المصرية عن حماية حقوق النساء لتنتقد ما قاله مبروك عطية. خرج بعدها على الفور على اليوتيوب مرة أخرى ليقول: أنا أحد علماء الأزهر. 

نفس الأمر تكرر عندما خرج الشيخ أحمد كريمة ليقول من حق الرجل المغترب التزوج بامرأة ثانية، ليعف نفسه دون حتى إبلاغ زوجته الأولى. انتقده البعض وأنا منهم، فرد وقال أنا من علماء الأزهر. نفس الأمر يتكرر مع عبد الله رشدي الذي عادة ما يذيل تغريداته والتي تفوح منها رائحة تحقير وكراهية المرأة بهاشتاج أو وسم #الأزهر_قادم. والأمثلة في هذا الشأن لا تنتهي.

هذه القدسية تمنعنا كمجتمعات من التقدم فكريا في مجالات متعددة في الحياة، يحتكر فيها بعض من القيادات الدينية التأثير في المجال العام. ففي بلادنا فقط، ستجد رجل الدين يطل على الشاشات ليتحدث في الاقتصاد والسياسة وعلم النفس وعلم الاجتماع والطب أيضا. فارضا وصايته على المجتمع ككل بما فيه حتى ممن ترقوا إلى أعلى المناصب وحصلوا على أعلى الدرجات العلمية من أرقى جامعات العالم. في حين لو انتقدت كلامه أو حاولت الاشتباك مع أفكاره، سيلجأ عادة إلى أقدم حيلة تعلمناها في المدرسة الابتدائية ونحن أطفال ليقول.. الشنطة فيها كتاب دين!  

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.