التحكم في الحبوب والزراعة كان لها أثر هائل في التاريخ البشري
التحكم في الحبوب والزراعة كان لها أثر هائل في التاريخ البشري

في صيف العام 2019 لفتني عنوان كتاب لجايمس سكوت Homo Domesticus، تاريخ عميق للدول الأولى. وبما إنني سبق أن تعرفت على سكوت من خلال كتابه عن السيطرة وفنون المقاومة الذي ترجم الى العربية بعنوان:"المقاومة بالحيلة"، وهو عن طرق الفلاحين الضعفاء في مقاومة السلطة عبر ملاحظاته لسكان قرية في ماليزيا وفي فيتنام لاحقا؛ لم أتردد في شراء الكتاب الذي لم يتسن لي العودة اليه إلا مؤخراً، وباعتقادي انه سيساعدني على فهم جذور تشكل الدولة، فالاهتمام بالدولة الوطنية يكتسب أهمية كبيرة، خصوصا بعد انفلاش ايران ومحوها لحدود الدول وبعد غزو روسيا لاوكرانيا.  

يُعِلمنا سكوت منذ البداية أنه intrus اي متطفل على الميدان. اهتم به جانبيا بسبب محاضرات طلبت منه في هارفرد. لا يزعم تقديم معارف جديدة، لكن إعادة وصل بعض النقاط الموجودة وتوليف المعارف الأكثر تقدما التي نمتلكها حول هذه المسائل، ثم الإيحاء بما تنطوي عليه لجهة بروز الدولة والعواقب الانسانية والايكولوجية التي تترتب عن شكل الدولة نفسها.  

يبدو أن المناخ والوضع البيئي الكارثي ودور الدولة في ذلك يكمن في خلفية هذا الكتاب. فمنذ نهاية القرن العشرين تصاعد القلق الإيكولوجي والتسخين الحراري للمناخ والامراض الجديدة وهموم الطاقة، ما يتطلب البحث عن رؤية وإدارة مختلفة لكل ذلك.  

سؤال سكوت ماذا لو أن البشرية تتجه نحو حائط مسدود؟ فهل تكون اتخذت مساراً جيداً؟ وهل كان تدجين النبات والحيوان فكرة جيدة؟ وهل هناك إمكانية لايجاد عالم مختلف؟ 

متسائلاً كيف توصل الهومو سابينس الى العيش في اطار تمركز البشر والنبات والحيوانات المدجنة غير المسبوق الذي يميز أولى الدول؟ ليس للشكل – دولة- من وجهة النظر هذه، اي شيء طبيعي او بديهي.  

تضع اجابته عن هذه الاسئلة، كثير من قناعات العالم الراسخة موضع تساؤل. وبما ان تأثير النشاطات البشرية المعاصرة على ecosphere لا يرقى اليها الشك، يبقى السؤال معرفة متى بالضبط اصبح هذا التأثير حاسماً.  

البعض يقترح ان نعود  الى اللحظة التي  بدأت فيها اولى التجارب النووية، التي أرست طبقة دائمة وقابلة للكشف للنشاط الإشعاعي على مجمل الكرة. وغيرهم يشغّل ساعة الاساءة للمناخ "انتروبوسين - Anthropocene " من حقبة الثورة الصناعية والاستغلال الكثيف للمحروقات الاحفورية. يمكن ايضا اعتبار البداية منذ اللحظة الذي اكتسب فيها المجتمع الصناعي الادوات – كالديناميت والبولدوزر والباطون المسلح (وخصوصا السدود)، التي سمحت بتعديل جذري للمنظر الارضي.  

لكن سكوت يقترح وجود انتروبوسين ضعيف قبل الظهور الحديث للأنتروبوسين القوي والاكثر تفجيراً. 

إذ من بين هؤلاء المرشحين المحتملين الثلاث، ليس للثورة الصناعية من العمر سوى قرنان والاثنين الباقيين يعودان الى ذاكرة الاجيال الحاضرة. واذا قارناها مع ما يقرب من مايتي الف عام من وجود النوع الخاص بنا، يكون الانتروبوسين لا يعود الا الى عدة دقائق. لذا اقترح نقطة انطلاق اخرى تعود لبداية اقدم في الزمن. من هنا  نجده يعود الى العشرة آلاف سنة قبل الميلاد حين كان سكان العالم مليونان او 4 ملايين بشري فقط، أي اقل من واحد على الف من السكان الحاليين، ويرى ان الدور الحاسم، لما وصلنا اليه، قبل الحداثة كان لمؤسسة: الدولة. 

اولى الدول في العالم ظهرت في السهل الخصيب لبلاد ما بين النهرين قبل نحو 6 آلاف سنة، اي بعد عدة آلاف من السنين من بروز مؤشرات على الزراعة والاستقرار في المنطقة. يقترح انه لم يتم تدجين الحيوانات والنباتات فقط، بل والبشر ايضا الذين دجنوا انفسهم بنفس الوقت واصبحوا عبيد حيواناتهم ونباتاتهم.  

لا يوجد أي مؤسسة اخرى ساهمت بحشد تكنولوجيا لتهيئة الأرضية لخدمة مصالحها كما فعلت الدولة. في البداية ظهرت كدولة مستقلة، ثم تجمعت، برضاها او بالغصب، الى ممالك ومن ثم امبراطوريات. ولهذا اللغز جواب واحد: الحبوب.  

لماذا الحبوب؟ 

يعطي مثل منطقة زوميا ( وهي كلمة ابتكرت لتدل على مرتفعات اراضي برمانيا، وهي مساحة شاسعة 2,5 مليون كلم مربع تقع قريبا من مرتفعات فييتنام، الى شمال شرق الهند خلال عدة مقاطعات صينية جنوبية، ومن كمبوديا ولاووس وتايلند وبرمانيا) التي لا يوجد فيها حبوب، لا قمح ولا ارز او دخن (ميلليه) او زراعة حصرية للحبوب، لكن لديهم بطاطا ومانيوك ووو .  

وهكذا يقوم سكوت بالتعميم: ان التاريخ لم يسجل وجود دول مرتبطة بالمانيوك او الساغوو او شجرة الخبز وو.... وحدها الحبوب سمحت بالتكيف مع تمركز الانتاج والضريبة والاستحواذ على السجلات والتخزين والتقنين. 

الحبوب توفر ميزات فريدة، وتعد مصدراً مالياً اساسياً للظهور الاول للدولة.  إذن ظهور الدولة كان نتيجة الغنى من وفرة المصادر الغذائية في المناطق الرطبة. ويعتقد ان الفهم الاوسع للتدجين كضبط للانتاج، يضبط  ليس فقط النبات والحيوان لكن العبيد ايضا، او رعايا الدولة والنساء. فعن طريق اشكال الاستعباد نجحت الدول الاولى في أسر وتثبيت جزء كبير من شعبها. شن الحروب كان بحثاً عن عبيد وعمال سخرة. 

ما هي مساوئ الدولة؟ يتعرض سكانها لهشاشة أكبر تجاه الاوبئة بسبب التمركز السكاني. لذا كانت اوائل الدول هشة ولديها قابلية للانهيار، وما سمى "بالعصور المظلمة" التي تلت كانت تتميز بتحسن وراحة اكبر للسكان. وهناك اسباب مقنعة للاعتقاد ، من الناحية المادية، ان الوجود البربري خارج الدولة، كان اكثر حرية، وصحة اعضاءها افضل من اوضاع اعضاء المجتمع المتحضر، او على الاقل لمن ليسوا من النخبة.   

الزراعة تجلب أيضاً بعض الاوجاع العضلية كما يلاحظ عند المتوفين، وجروح مفصلية، وانخفاض في القامة، ارجعت سابقا الى الفروق العرقية، لكنه يرى ان عرق الصيادين اقوى لان نشاطهم اكثر تنوعا واقل تعبا وأقصر.   

وأمام إهمال الدور الكبير للأمراض المعدية الناتجة عن تمركز البشر وأثرها على الهشاشة الديموغرافية لاوائل الدول، يوجه السؤال التالي:ألم يكن التخلي عن الدولة في اولى مراكزها مفيدا لصحة وسلامة سكانها القدماء بدل اعتبارها "حقب مظلمة"؟! 

فرضيته لتحديد الصواب من الخطأ: تعريف مجتمع الوفرة ، ليس بطريقة مطلقة، بل العلاقة بين الكلفة \ والربح مع الجهد المبذول والنتائج. حينها تكون مدة عمل الصيادين- الملتقطين، لما قبل التاريخ، للحصول على غذائهم أقل من ذلك المبذول من المزارعين. لذا يعتبر ان تلك المجتمعات الاولى هي مجتمعات الوفرة الوحيدة ووضع سكانها افضل. 

انتقاد وجود ودور الدولة واللامساواة التي يعاني منها السكان، ليس جديداً، سبق لجان جاك روسو في خطابه عن جذور وأسس اللامساواة ان اعتبر ان الانسان يفقد نصف حسنات وجوده التي تؤمنها الطبيعة بواسطة التدجين، وانتقد الغنى الفاحش ورفض الجشع والقمع والغرور ودافع عن حالة الانسان الطبيعية في سياق انتقاده للتمييز بين المتمدن والمتوحش وفضّل العيش البسيط والموحد والمنعزل. كما انه ربط مثله بين الامراض و"التمدن".  

سكوت ينتقد بحدة جنة النيوليبراليين وبيروقراطيتهم واجتياحهم اقتصادات العالم. ويدافع عن الأعمال المعتبرة "خرائية" Bullshit jobs، والتي تشكل لائحة كل المهن الاجتماعية غير المفيدة اجتماعيا التي تفرزها هذه الجنة، وهي الاعمال ذات الاجر الاعلى، كمحاميي الاعمال والمستشارين المنوعين والمتعاقدين واصحاب الاعمال الوسيطة... بينما نجد ان الممرضات والموسيقيين والجنيناتيين والمدرسين، لا يتقاضون سوى اجور خفيضة وتحظى بتقدير متواضع.  

سبقه الى ذلك ارنست شوماشر في كتابه Small is Beautiful  .  

انتُقِد سكوت كثيراً، فهناك من يجد ان أطروحته ليست سوى "تاريخ شعبوي ما بعد حداثوي"،  

فزوميا لا حدود واضحة لها ولديها علاقات مع مناطق فيها دولة مركزية، وبشكل خاص انه لم ير سوى النواحية السيئة من الدولة. ويعتبر عموماً انه ينتمي إلى تيار الانتروبولوجيين الفوضويين "انارشيست"، وان احد اهم مراجع هذه الانتروبولوجيا الفوضوية هو بيير كلاستر في كتابه La société contre l’état. 

وسنعود إليه في المقال القادم. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.