اسطنبول شهدت مسيرة لأنصار "مجتمع الميم"
اسطنبول شهدت مسيرة لأنصار "مجتمع الميم"

التظاهرتان اللتان شهدتهما تركيا، خلال الأسبوع الماضي، وبالرغم أنهما حدثتا في مكانين منفصلين وبعدين عن بعضهما، لأسباب تبدو مختلفة، إلا أنه كان ثمة تطابق شبه مطلق فيما بينهما: "مسيرة الفخر"، التي نظمها العديد من النشطاء المدنيين والجمعيات الثقافية والمنخرطين والمدافعين عن حقوق المثليين والمتحولين ومتعددي الميول الجنسية "مجتمع الميم"، في مدينة اسطنبول التركية. ونظيرتها، تظاهرة النشطاء الثقافيين الأكراد في مدينة ديار بكر، الذين كانوا يطالبون بتحويل اللغة الكردية إلى لغة رسمية في البلاد. 

مثلا، في كِلا المناسبتين، كان عنف قوات الأمن مفرطا، ومتراكبا مع ثقة واعتداد إيديولوجي وهوياتي بالذات، في مواجهة من تعتبرهم "الأعداء الخالصين": الأكراد، المُعتبرون كمناهضين للهوية المركزية القومية التركية الجمعية، و"مجتمع الميم" المضاد للهوية الذاتية الذكورية المحافظة، حيث إن التمركز على هاتين الهويتين، الجمعية والذاتية، بالنسبة لقوات الأمن ومؤسسات القمع والبنية الاجتماعية المؤيدة، هو أساس وعي الذات وشكل العالم بالنسبة لهم، وكل من يُناهض أو يناقض ذلك، هو في مقام "العدو المطلق". 

كذلك فإن جوهر ما كانت تقوم عليه التظاهرتان هو "الحقوق الأولية والأساسية والمطلقة للبشر"، الحق في حرية الجسد في مظاهرة اسطنبول، والحق في نيل اللغة الأم في مظاهرة دياربكر. 

في هذا الإطار، ليس بغريب أن يكون حزب الشعوب الديمقراطية في تركيا، الذي يُعتبر "حزب الحركة التحررية الكردية في البلاد"، هو الحزب الأكثر وضوحا ومباشرة وشجاعة في تأييده لحقوق أفراد "مجتمع الميم" هذا، ومنذ سنوات، بما ذلك عقد لقاءات علنية مع جمعيات ومؤسسات وناشطي هذا المجتمع، وإعلان بعض قيادي الحزب عن هويتهم الجنسية المثلية والمتحولة والعابرة، بمن فيهم محامي زعيم الحزب المعتقل صلاح الدين دميرتاش.

بموقفه الواضح هذا، يكون الحزب الكردي في تركيا قد أحدث تحولا في نوعية الوعي التحرري للحركة القومية الكردية في عموم بلدان المنطقة، فهذا الموقف الإيديولوجي والسياسي والثقافي من قبل الحزب، وبشكل شفاف وواثق من نفسه، هو انزياح للقول إن أرض الحرية "قطعة واحدة"، تمتد من الحرية والحق في تقرير المصير والمساواة بين الجماعات القومية والعرقية، مرورا بالحق بالكلام والتعبير باللغة الأم، لتصل للحق في حرية الجسد والهويات الفردية الأكثر خصوصية، حيث أن مجموعة تلك الحريات تستند إلى الجذر الأكثر أصالة في ملحمة الحرية في منطقتنا، وهو ضمان الوصول إلى الحقوق الأولية والأساسية والمطلقة للبشر، دوماً وبأمان ولكل الناس. 

لسببين رئيسيين، لم يكن أي حزب أو تيار سياسي كردي في البلدان الأخرى قد تبنى مثل هذا الموقف من قبل، لأن الأحزاب الكردية كانت غارقة في السؤال السياسي القومي الأشد مباشرة وقسوة، المتعلق بالحقوق القومية الأكثر بداهة، المتمثل بنيل الاعتراف بوجود شعب كردي في هذه المنطقة. هذا الأمر الذي كان يحول باقي المسائل والقضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية إلى هامش بعيد، يُستحال الاهتمام والتفكير بها.

كذلك لأن الصراع السياسي والعسكري الذي خاضته الحركة القومية الكردية في هذه البلدان، وما مورس ضدها من إرهاب عمومي من قِبل سلطات تلك البلدان، أنما فعلياً صلّب وعسّكر المجتمع الكردي، تلك الخصائص التي زادت وخدمت النزعات الذكورية في فضاءه العام. الذكورة التي تعتبر حتى مجرد نقاش مثل هذه المواضيع نوعاً من "العار الصافي". 

لكن، ثمة تغيرات كثيرة وكبيرة طرأت، صارت تؤثر في هذه العلاقة التقليدية. تحولات غدت تخلق روابط واضحة بين المسألة الكردية في بلدان هذه المنطقة، وما يناظرها من قضية "مجتمع الميم". هذا التغيرات والروابط التي يمكن تأطيرها بثلاثة مستويات من النقاش: 

أولا، مسألة "مجتمع الميم" لم تعد مجرد قضية اجتماعية أو هامشا ثقافيا وفكريا فحسب، بل تحولت خلال العقدين الماضيين إلى واحدة من القضايا السياسية الحاضرة بكثافة، خصوصا في البلدان الديمقراطية التي تمنح مواطنيها حرية الكلام، فمختلف الرؤى والنقاشات العمومية صارت تعتبر الموقف من الحريات الجسدية واحدة من المعايير التأسيسية لفهم أي تيار أو نظام سياسي، لتحديد ماهيته الديمقراطية من عدمها، نزعاته الليبرالية من نظيراتها الشعبوية والمحافظة، بنيته الإيديولوجية ورؤيته الاجتماعية. وهكذا. وصار الإرهاب والرُهاب من "مجتمع الميم" واحداً من أهم مقاييس تحديد القوى السياسية والإيديولوجية المنزاحة للمحافظة والشمولية والمركزية. 

في هذا المقام، وبحكم موقعهم التقليدي كجماعات تملك تعطشا لنيل حقوقها عبر ديناميكيات الحرية والديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان، وباقي منظومات الحداثة السياسية، فإن الأكراد بعمومهم، وحركتهم القومية التحررية بالذات، من المفترض أن يجدوا أنفسهم بوضوح في دفة القوى والخطابات والتنظيمات المدافعة حقوق "مجتمع الميم"، كشركاء موضوعيين وفعليين في المشهد الكلي لـ"معركة الحرية".

فكما كان العمال والفلاحون والمستضعفون على مستوى العالم يجدون أنفسهم أكثر انجذابا للأيديولوجيا الماركسية والتنظيمات اليسارية، بحكم المشترك الرمزي والمصالح المشتركة العليا، فأن الأكراد راهناً، وبحكم موقعهم الهش في بلدان هذه المنطقة، كانوا وما يزالون في الدفة العالمية الأكثر دفعا نحو نيل الحريات الجمعية والفردية، التي تمثل تنظيمات ورؤى "مجتمع الميم" واحدة من أبرزها راهنا. 

المسألة الأخرى تتعلق بهوية "المُعادي المحلي" المشترك للطرفين. فكلاهما، الأكراد و"مجتمع الميم"، هم فعليا ضحايا تلك الإيديولوجيات والتنظيمات السياسية ونوعية الوعي الاجتماعي المتمركزة حول القوميات المركزية المُطعمة بالإسلام السياسي. ففي بلدان المنطقة الأربعة، تركيا إيران العراق وسوريا، تملك هذه القوى الحاكمة رهاباً وعداء رهيباً لكِلا الجماعتين. لأن الأكراد بتكوينهم السياسي والجغرافي واللغوي يشكلون رعباً لمعتقداتهم الإيديولوجية القومية الشمولية، ولأن "مجتمع الميم" يناهض نوعية وعيهم لذواتهم وللمجتمع، ذلك الوعي القومي/الإسلامي المتبني بالضرورة وعلى الدوام للذكورة واستسهال العنف والشمولية الإمبراطورية.

حسب هذا، فإن الأكراد و"مجتمع الميم" على حد سواء، ككتل تملك طيفا من المطالب السياسية والثقافية، يجمعها مصلحة موضوعية مشتركة في تفكيك هذه المنظومة المحلية من العقائد والتنظيمات الحاكمة، التي تشكل الإطار الموضوعي لديمومة الشمولية بمختلف أشكالها، سواء الشمولية السياسية والإيديولوجية المناهضة للأكراد، أو الشمولية الثقافية والمجتمعية المناهضة لـ"مجتمع الميم". 

كان التاريخ السياسي للأكراد في هذه البلدان متخما بأمثلة يمكن الرجوع إليها، يُتثبت كل واحدة منها صحة هذا المنطقة، صحة أن الأكراد، كجماعة وكقوى سياسية، أنما يشكلون الحليف الموضوعي لأي تنظيم أو إيديولوجيا مناهضة لتلك القوى والإيديولوجيات القومية/الدينية الشمولية، الحاكمة والمؤسسة لبنيان الشمولية في هذه البلدان، والعكس صحيح. فالأكراد انخرطوا بكثافة وحيوية في الحركات النقابية والأحزاب اليسارية ومنظمات المجتمع المدني والتنظيمات النسوية والجمعيات البيئية، لأسباب كثيرة، على رأسها إحساسهم إنها كلها كانت فعليا حليفا موضوعياً للأكراد وحركتهم ومطالبهم في هذه البلدان، لأنها كانت تستهدف نفس الجوهر المناهض والمعادي للأكراد. 

أخيرا، فإن الأكراد، كجماعة وكقوى سياسية، في موقفهم من الحقوق القانونية والمجتمعية لأعضاء "مجتمع الميم" يستندون إلى ذاكرة من ذاقوا فظاعة غياب الحرية في هذه البلدان، الغياب المُطعم بروح الكراهية المستندة إلى الاعتداد الإيديولوجي الذكوري بالذات، الذي كانت تتبناه الجماعات الأخرى. هذا الشيء الذي يواجه "مجتمع الميم" راهنا في مختلف بلدان منطقتنا، غياب الحرية في واحد من الحقوق الأساسية، مع حضور عنف بطعم الكراهية.

لأجل ذلك، فإن موقف الأكراد من "مجتمع الميم" هو موقف من الذات، للقول الصريح إن التحرر لن يكون أمرا له معنى وقيمة، لو كان تحررا من الآخرين فحسب، ولم يكن مُصطحبا أيضا بالتحرر من الذات، التحرر من أوهام الذات ومقولاته وتصوراته ونزعاته وبداهته، العنيفة والذكورية. هذا التحرر الثاني الذي فشلت مختلف جماعات ومجتمعات المنطقة في تحقيقه، فكانوا شديدي القسوة، على أنفسهم وفيما بينهم، على الأقل. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.