صورة نشرها التلفزيون الرسمي العراقي للمتهم باغتيال هشام الهاشمي
صورة نشرها التلفزيون الرسمي العراقي للمتهم باغتيال هشام الهاشمي | Source: social media

مضى عامان على اغتيال الباحث والكاتب العراقي هشام الهاشمي. من المفترض أن يكون القاتل في السجن، في وقت تؤكد مصادر أخرى أنه جرى تهريبه، وأن تأجيل المحاكمة مرده إلى عدم توفره لدى السلطات. القاتل ضابط في الشرطة العراقية، ومضى أكثر من سنة على تقديمه اعترافاته التي يبدو أنه عاد وتراجع عنها. القضاء العراقي في قبضة الميليشيات، بحيث جرى تصوير عملية الاغتيال على أنها حادثة قتل عادي. فالفيديو الذي ظهر فيه القاتل يدلي باعترافاته، وكان بثه التلفزيون العراقي، ظهرت الجريمة فيه مقتطعة من سياقها، في وقت كنا أمام جريمة سياسية بامتياز، فلا جهة وراء القاتل بحسب اعترافاته، ولا اعترافاً يتجاوز الفعلة نفسها. لقد قتل هشام لأسباب نجهلها، وربما يجهلها هو! ومن اليوم الأول للكشف عن هوية القاتل، ظهرت نوايا لحماية الجهة التي تقف وراءه، فللجناة وزارؤهم ونوابهم وقضاتهم، مثلما لهم أيضاً ضباط في الشرطة يتولون تنفيذ المهام من البصرة إلى بغداد.  

تصلح هذه التراجيديا لتناول القضاء بوصفه هدفاً ضرورياً للميليشيات في دول المحور الثلاث، أي لبنان وسوريا والعراق. إنها أنظمة الميليشيات التي لا تستقيم سلطتها من دون تحويل القضاء إلى مهزلة. في لبنان يمنع القاضي طارق البيطار من استدعاء المشتبه بهم في انفجار المرفأ، وفي سوريا سجون هائلة لا طريق للعدالة إليها، وفي العراق يصل المحققون إلى نتائج في تحقيقاتهم حول الاغتيالات يتولى القضاء إجهاضها! القضاء في الدول الثلاث موظف لدى سلطة الميليشيات. ليس في هذا الكلام أي مبالغة.  

لكن هل يمكن لنظام تحلل الدول وتحويلها إلى "ساحات للجهاد" أن يتولى إدارة مصالح الناس، وإن على نحو جائر وغير عادل؟ فالأسئلة ستبقى معلقة في وجدانات أهل الضحايا، والقتل الذي شهدته هذه الدول سيحول الجريمة إلى علاقة بين السلطة وبين الناس. أهالي ضحايا مرفأ بيروت سيعيشون في ظل سلطة قتلت أهلهم. ستكون علاقتهم بهذه السلطة قائمة على التسليم بهذا القدر. مئات الناشطين العراقيين الذين قتلتهم الميليشيات ستنتظم العلاقة مع دولتهم وفق هذه المعادلة. أما سوريا، فالأرجح أنها التجربة الذي استمدت منه ثقافة دول المحور نموذجها، ذاك أن النظام هناك تربطه فعلاً علاقة قتل مع رعاياه، والخدمة الوحيدة التي يقدمها النظام للناجين منه، هي أنهم ما زالوا على قيد الحياة. 

لعل جريمتي تفجير مرفأ بيروت والقتل المعلن لهشام الهاشمي في بغداد يدفعاننا للتفكير بما آلت إليه أحوالنا في محور البؤس الذي يضمنا من بغداد إلى بيروت ومروراً بدمشق. التشابه يصل في لحظات إلى حد التطابق، ونحن اذ نكابد في العواصم الثلاث الكوابيس نفسها، تهيؤ لنا الأنظمة فرصاً موازية لتبادل الخبرات. فعلى المقلب الآخر للمأساة تشهد بيروت سياحة عراقية وتشهد بغداد نزوح يد عاملة لبنانية إليها، فيما يقصد دمشق مقاتلون من الحشد الشعبي العراقي تارة، ومن حزب الله اللبناني تارة أخرى، وعلى ضفاف هذا الخراب ينخر فساد النخب الجديدة المجتمعات ويدفع العوز فيها الناس إلى حدود الجوع! 

الخراب هو المآل الوحيد لهذه التجارب الفاسدة. "المقاومة" تملي غياب العدالة، والسلاح قضية "مقدسة" وأي بحث فيه يلامس الخيانة، والتصدي للفساد ينطوي على مؤامرة تحاك في السفارات. وبموازاة هذا البؤس يتم استحضار معارك موازية فيصدر البرلمان العراقي قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل، وتخوض السلطة الدينية في لبنان حرباً على الزواج المدني وتشن حملة على المطلبين بإلغاء قانون تجريم المثلية الجنسية! يجري هذا في ظل الفشل الكامل لكل الوظائف الخدماتية للدولة. في لبنان صفر كهرباء وصفر مياه وصفر خدمات صحية، وفي العراق انسداد سياسي يمنع تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس للجمهورية، واستقالة نحو ربع أعضاء نواب البرلمان! 

التعايش مع وجه القاتل عندما تكون في موقع الضحية هو اختناق وهو انتظار مستحيل لفرصة للانقضاض على الجاني، وفي حالتي لبنان والعراق، وطبعاً في الحالة السورية، نحن لسنا حيال قاتل وضحية بل حيال صناعة كاملة لفكرة السلطة الجانية والضحايا.  

أطفال هشام الهاشمي سيكبرون على حقيقة أن قاتل والدهم يعيش رغماً عنهم بعيداً عن العدالة، وأهالي ضحايا المرفأ في بيروت سوف لن ينعمون بالشفاء طالما أن العدالة ممنوعة من الانعقاد، وسكان السجون السورية، هم اليوم نموذج المواطن العادي في دولة البعث.       

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.