مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي يعبرون على الدوام عن رغبتهم في ترك حياتهم الرقمية
بعد ثورة الانترنت يقضي الفرد العربي العادي أربع أو خمس أو ست ساعات (وربما أكثر !!!) على وسائل التواصل الاجتماعي.

قديما؛ قال أبو الطيب المتنبي:

لولا المَشقّة سَادَ الناسُ كُلُّهم    الجُودُ يُفْقِر والإقدامُ قَتَّالُ

فالسيادة ـ كما يتصورها المتنبي ـ هي المنجز الأسمى، وهي عند العرب، أي في نسقهم الثقافي، تقوم على قاعدتين: الكرم والشجاعة. وكلاهما مسار فعل يدخل في أشد المسارات صعوبة وجدّية، إذ الكرم تضحية بما به قوام الحياة، الحياة بضرورياتها التي تنهض بها أساسا، وبكمالياتها التي تجعلها جديرة بأن تُعَاش في نظر أصحابها. بينما الشجاعة تضحية بالحياة نفسها، بوضعها على حافة الخطر؛ على مدار اللحظة؛ كشرط أساس لِتَحوّل "الفعل" إلى "صفة" تشهد بالامتياز. 

وحيث هما، أي الكرم والشجاعة، على هذا المستوى من الجِدية/ الأهميّة، فقليلٌ جِدًّا مَن يُحَاول الاتصاف بهما عن طريق الامتثال لشروط الاتصاف، حتى وإن كان هناك كثيرون يُحَاولون الاتصاف بهما عن طريق الزعم والادعاء المجاني. وبناء على قانون الندرة، تعلو قيمتهما، ويرتفعان في سماء القيم الاجتماعية كعنصرين جاذِبين لمسارات الفعل الإيجابي المُتَعدِّي الذي يُوَفِّر بصفة "الكرم" الحياةَ ابتداء، وبصفة "الشجاعة" مُقوِّمات الأمان.

هذا من حيث مِحْور الفاعل، وهو الذي ساد في معظم فترات التاريخ.  لكن من زاوية موضوع الفعل/ المتلقي، أي من لحظة دخول المتلقي كفاعل حاسم في تحديد قيمة الأشياء والأشخاص، انقلب الوضع إلى الضد؛ لتصبح الأشياء التافهة، الأشياء المُفْقرة لعناصر الجودة، الأشياء سَهلة الاستهلاك (من جهة كونها سهلة الانتاج أصلا)، هي الأشياء ذات القيمة، إذ هي الأقوى حضورا بقوة زخم جماهيرِ المستهلكين.

صحيح أن الالتفاف الجماهيري الواسع حول الخرافي واللاهي والتافه والغرائبي والمضحك والمُسَلّي والفوضوي له تاريخه الذي لا يُنْكر، مقابل ضآلة جمهور الجاد والعقلاني والمتسق/ المنتظم في صيرورة فعل أو قول. فالمفكر الفرنسي/ جوستاف لوبون كثيرا ما أكّد (وخاصة في كتابيه: "الآراء والمعتقدات" و"سيكولوجية الجماهير") على أن الجماهير تنفر من العقلاني والجِدّي والصادق، وتنجذب بشدة إلى الخرافي واللاّهي والعاطفي والغرائبي والفوضوي. 

ومن قبل ذلك بأكثر من ألف عام، لاحظ ابن قتيبة (في القرن الثالث الهجري) أن ما يجذب الجماهير ويُغْريهم بالاستماع، إنما هو التافه بالجملة. قال: "القصاص على قديم الزمان، فإنهم يُمِيلون وجوه العوام إليهم، ويستدرّون ما عندهم بالمناكير والغريب والأكاذيب من الحديث. ومن شأن العوام القعود عند القاصّ، ما كان حديثه عجيبا، خارجا عن فطر العقول أو كان رقيقا يحزن القلوب ويستغزر العيون" (ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، ص279؛ نقلا عن محمد اليوسفي، "فتنة المتخيل" ج2ص17). وهي ذات المعاني التي ألحَّ عليها ابنُ الجوزي (عاش في القرن السادس الهجري) في كتابه "تلبيس ابليس" عندما تحدّث عن "القُصّاص" وغرائبهم اللاّمعقولة التي تجذب بتفاهتها وتهافتها الجماهير، ويكون الالتفاف عليهم شديدا بحجم هذه التفاهة، وهو ما يغريهم، أي القصاص، بمزيد من الغرائبية واللامعقولية؛ لاجتذاب أكبر قدر من الجماهير المسحورة أبدا بالوجداني/ العاطفي واللاّمعقول.

نعم، كل هذا صحيح، وصحيح أيضا أنه امْتَدَّ إلى عصرنا الحديث، وعرف الجميعُ أن صفحة رياضية أو صفحة فضائحية تُعْنى بالأخبار التافهة، في جريدة/ صحيفة ما، تحظى دائما بأضعاف ما يمكن أن يحظى به مقال جاد أو تحقيق صحفي مُوَثَّق في الصحيفة نفسها. فمعروف أن صفحات الرياضة والفن وأخبار المشاهير كانت هي الضامنة لمقروئية كثير من الصحف، بل وكثير منها كانت تعتمد على "هذه التفاهة" في النهوض بمسؤوليتها المادية، وبالاحتيال لتمرير رسالتها الثقافة في العموم.

كل هذا صحيح. ولكن كل هذا كان في إبّانه مجرد ظاهرة، ولم يكن قانونا عاما، أو لم يكن ظاهرة لها طابع الإحاطة والشمول. بمعنى أن التفاهة لم تكن شرطا للحضور، للفعل العام، للتأثير الساحق، لم تكن تُلغي ما سِواها؛ حتى وإن كانت تُزَاحمه وتَحُدّ من فاعليته. فمثلا، كان بجانب "القصاص" في عصر ابن قتيبة وفي عصر ابن الجوزي، ابنُ قتيبة ذاته وابن الجوزي، وكانا فاعلين بقوة تأثيرهما؛ رغم جماهيرية القصاص والمشعوذين والمهرجين. لم يكن ابن قتيبة أو الجاحظ أو أبو تمام أو البحتري أو أبو علي القالي أو المتنبي أو أبو حيان التوحيدي أو المعري مثلا، مضطرين لتقمّص أدوار التفاهة، لم يكونوا مضطرين للتنازل عن شرط العلم أو شرط الجمال الفني لِيَتَمكّنوا من الظفر بالامتياز المادي والمعنوي في عصورهم، على اختلاف شروط هذا الامتياز وتباينها في المكان والزمان. 

اليوم، تزدهر التفاهة بفضل جَمْهَرة الإعلام عبر وسائل التواصل الاجتماعي. اليوم، أصبح العبثي والمُضْحِك واللاَّمعقول والمُضَاد للعلم والخرافي والغرائبي يُنْتِجه الجميعُ ويستهلكه الجميع. بعد ثورة الانترنت، يقضي الفرد العربي العادي أربع أو خمس أو ست ساعات (وربما أكثر !!!) على وسائل التواصل الاجتماعي يُغَذِّي بالتافه ويَتَغذَّى به. وربما لو خصص نصف هذه الساعات للقراءة الجادة؛ لا ستطاع في عشر سنوات قراءة أمّهات كتب الأدب والتاريخ والفلسفة. لا تجد في الألف واحدا من كل هذه الملايين الغارقة في بحر التفاهة المتلاطم مَن قرأ "العقد الفريد" لابن عبد ربه، أو "عيون الأخبار" لابن قتيبة، أو "رسائل الجاحظ"، أو "زهر الآداب" للحصري، أو "تاريخ بن الأثير"، أو دواوين شعراء العربية الكبار، أو أهم روايات الأديب العربي العالمي/ نجيب محفوظ. بينما قد تجد في الألف 999 كلهم قد شاهدوا آخر مقطع سخيف على وسائل التواصل، وكثير منها أعاد تدويره بطبيعة الحال! 

إن المنتج التافه أيا كان، يستقطب الجماهيرية. وبعمق درجة التفاهة، تتسع دائرة الجماهيرية. والجماهيرية اليوم قوّة مادية ومعنوية، وبالتالي، ستفرض قانون التفاهة على الجميع؛ لأنها الأشد تأثيرا حتى على أولئك الذين يظنون أنهم بمنجاة من آثارها المدمرة. بل حتى أولئك الذين يظنون أنهم يحاربونها سيخضعون لقانونها من حيث يشعرون أو لا يشعرون. 

في النهاية، تبقى الأسئلة المؤلمة: هل ازدهار التفاهة سيسير في خط صاعد على الدوام؟ هل هو ازدهار يُعبِّر عن انتصار نهائي وشامل؟ أم هل سيتكفل الزمن، المشحون بالتحديات المصيرية، باستخلاص العناصر الأكثر معقولية، عبر آلية الانتخاب الطبيعي؟

للأسف، مسار ازدهار التفاهة وقوة تأثير التافهين، لا يدعو للتفاؤل، على الأقل؛ في حدود المستقبل المشهود.
 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.