لا يمكن وصف الوضع الحالي بالديمقراطية في ظل دساتير وتشريعات قائمة على الدين
لا يمكن وصف الوضع الحالي بالديمقراطية في ظل دساتير وتشريعات قائمة على الدين

ثمة جدل قديم متجدد حول أي النظم السياسية أفضل لتحقيق ازدهار اقتصادي، النظم الديمقراطية أم غير الديمقراطية، وما إذا كانت الديمقراطية في الأساس شرطا لازما لمثل هذا الازدهار.

فالعالم يعرف اليوم عدة نماذج سياسية تتفاوت في وضعها الاقتصادي وكذلك في تطبيقها للديمقراطية. فهناك النظم الغربية التقليدية وهناك أيضا النظام الصيني وما بينهما طيف واسع من النظم المتفاوتة في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.

جميع هذه الأنظمة تقترح أمرا واحدا وهو أن النظام الديمقراطي مفيد للاستقرار الاقتصادي، لكنه ليس شرطا ملازما له. مع ملاحظة أن بعض الدول ربما تطبق عددا من المبادئ الديمقراطية من دون أن تسميها وتتجاهل مبادئ أخرى، وخصوصا الانتخابات والحرية السياسية.

وفيما يتعلق بالعالم العربي فالأمر لا يختلف كثيرا. فقد كشف أحدث استطلاع أجرته شبكة الباروميتر العربي للأبحاث لصالح قناة بي بي سي نيوز عربي، عن أن المواطنين العرب في تسع دول عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إضافة الى الأراضي الفلسطينية، فقدوا ثقتهم في تحسن أوضاعهم الاقتصادية في ظل نظام سياسي ديمقراطي.

وعن سؤال للمشاركين في الاستطلاع حول ما إذا كانوا يفضلون حكومة فعالة أيا كان شكل نظامها السياسي، قال أكثر من 60% عبر الدول التسع إنهم لا يعترضون على شكل الحكم طالما اتسمت السياسات الحكومية بالفعالية… وقال أكثر من نصف المستطلعة آراؤهم، إنهم يحبذون حكم "زعيم قوي، حتى وإن لم يلتزم بنص القانون، لتحقيق نتائج ملموسة".

قد تبدو مثل هذه النتيجة صادمة للكثيرين، لكنها تعكس في الواقع الحاجات الفعلية للسكان، كما تعكس طبيعة القيم والثقافة السائدة في المنطقة.

مع ذلك لا ضير من إبداء بعض الملاحظات على هامش هذا الاستطلاع.

أولا، مع الاحترام الشديد لشبكة البارومتر العربي، إلا أنها لم تكن موفقة في استخدام مصطلح الديمقراطية لوصف ما يجري في بعض البلدان العربية. الواقع أنه لا يوجد نظام ديمقراطي عربي واحد، ولا يوجد حماس شعبي لقيام مثل هذا النظام، نعم هناك انتخابات وبعض الانفتاح السياسي هنا وهناك، لكن لا توجد ديمقراطية.

إذ لا يمكن وصف الوضع الحالي بالديمقراطية في ظل دساتير وتشريعات قائمة على الدين من جهة، وفي ظل غياب الحريات الأساسية واحترام حقوق الإنسان والتعددية والفصل الواضح بين السلطات والتداول السلمي للسلطة وغيرها من المبادئ الديمقراطية من جهة أخرى.

وما حدث في عام 2011 لم يكن بدافع المطالبة بالديمقراطية أو الحاجة إلى الديمقراطية وإنما لأسباب بعضها اقتصادي وبعضها ديني أو طائفي وبعضها سياسي.

وهذا أمر تحدثت عنه كثيرا وبالتفصيل في هذه الزاوية فلا أعود إليه.

الأمر الآخر هو أن الازدهار الاقتصادي ليس مرتبطا فحسب بطبيعة النظام السياسي، سواء كان ديمقراطيا أم لا. فهناك عوامل أخرى أيضا تلعب دورا بارزا في هذا الجانب.

من الصعب إن لم نقل الاستحالة أن يحدث استقرار اقتصادي في أي بلد يعاني من عدم استقرار سياسي وأمني مزمنين، وهذا هو حال معظم الدول العربية اليوم، حيث التنازع السياسي (وأحيانا الدموي) بين المعارضات والحكومات (والأصح أن نقول بين مجموعات متنافرة من السكان) لا ينتهي.

كذلك فإن النهوض الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق في أية دولة يسيطر فيها الدين على المجال العام. والمقصود هنا ليس وجود الدين نفسه أو أشخاص متدينين وإنما أن يكون الدين هو المهيمن على الدولة وتشريعاتها.

فالاستقرار الاقتصادي يتطلب توافر دورة اقتصادية حقيقية من إنتاج واستثمار وبنية خدماتية وانسياب مالي وتشريعات وقوانين محفزة للشركات والأفراد وانتقال سهل ومرن للعمالة وكذلك رؤوس الأموال.

عندما يهيمن الدين على الدولة فإنه يؤثر في كل ذلك، فهو يتدخل في التشريعات ويفرض القيود ويدمر الخدمات ويجعل الاستثمار صعب المنال ويحيل الحياة الاجتماعية إلى العدم، وهي كلها لا تشجع أحدا على القدوم أو الانخراط في هذا الاقتصاد.

ويجادل البعض بأن دول الخليج مثلا هي دول محافظة ويسيطر فيها الدين على المجال العام ومع ذلك فهي مستقرة اقتصاديا!

وهذه الحجة قد تصح لولا معاناتها من ضعف واضح. فدول الخليج لها وضعية خاصة، إذ هي تعتمد على النفط والغاز وقلة عدد السكان، ولولا ذلك لكان حالها مختلفا تماما. الأمر الثاني أن دول الخليج (وبفضل عائدات النفط والغاز) استطاعت أن تقيم فصلا محسوبا بين عالم الاعتقاد الديني وعالم المال والأعمال. ففي المجال المالي والتشريعي والخدمات والبنوك ثمة مرونة عالية لا تتناسب أحيانا مع التزامها الديني.

ولنأخذ دولة مثل قطر، فهي محافظة وتتبع المذهب السلفي (في صيغته الوهابية) ولكنها تقدم نفسها للعالم الخارجي على أنها دولة منفتحة وربما ليبرالية، ورغم أن وسائل إعلامها ومنابرها الدعوية والمنظمات الإسلامية التي تدعمها تحرض فقراء العرب والمسلمين على الانتحار والموت "في سبيل الله"، لكنها لم ترسل قطريا واحدا إلى ساحات "الجهاد" ليموت فيها.

وقد انتبهت السعودية أيضا إلى أنها إذا أرادت أن تخفف من اعتمادها على البترول وتبني اقتصادا حقيقيا، فلا بد أن تخرج تدريجيا الدين من المجال العام عبر إصلاح بنيتها الثقافية والفكرية والدينية، وهذا ما يقوم به ولي العهد السعودي حاليا.

وخلاصة القول هي أن الازدهار الاقتصادي قد يتحقق من دون وجود نظام ديمقراطي، لكن لا أمل في حدوثه من دون استقرار سياسي وأمني وبيئة تشريعية حديثة وجرعة كبيرة وواضحة من العلمانية.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.