لا تتحرك الأمم، مُتجاوزةً منطقة الركود والبلادة والخمول، بمبادئ العقلانية، ومُقرّرات العلم، ومَسارِب المعرفة الموضوعية الخالصة. نعم، هذه بوصلة اتجاه، ومعالم طريق، ودليل إرشاد عملي ناجع يندرج في سياق فعالية العقل الواعي. ولكن الطاقة الحيوية الدافعة تبقى ـ في أصلها ـ فاعلية ما قبل عقلانية/ ما وراء عقلانية، أي وجدانية بالأساس، تبدأ من الاستثمار النشط لدوافع فاعلة في عالَم اللامعقول، وصولا ـ بعد لَأيٍ، وتجاذبات جدلية ـ إلى الفعل في العالَم الجمعي المعقول، أو الذي يُفترض أنه كذلك.
وهنا يأتي السؤال الأهم: ما هي أقوى صور ذلك النشاط الإنساني الذي يتخذ من "المُتَخَيَّل الجَمْعي" مَيْدَانًا له، وبالتالي، يُصبح هو الأقدر على تحريك تلك الطاقة الحيوية في الإنسان؛ ليتجاوز منطقة الركود والبلادة والخمول؟
طبعا، الدين، باشتغاله أساسا على منطقة "المُتَخَيَّل الجَمْعي" هو الأقوى تأثيرا، على الأقل، في المستوى الأفقي؛ من زاوية اتساع رقعة التلقي، لأن الدين خطاب شمولي يستهدف كل أفراد المجتمع، وتكون الاستجابة ـ في الغالب ـ مُسْتوعِبة للجميع، إما مَبدئيا؛ بالاستجابة الذاتية الطوعية، وإما بالتبع؛ انتظاما أدبيا أو قانونيا في عُرْفٍ اجتماعي عام يكون الدين مكونه الأساس.
لكن، يبقى الدين ـ من حيث هويته الإيمانية ـ امتثاليا، وتزداد امتثاليته بالاطراد مع ترسّخه كدين يتماهى مع الأعراف والتقاليد الراسخة، يُغَذِّيها ويَتغذَّى بها، ويتبادل معها ـ على نحو تفاوضي مُضْمر ـ مقولات الشرعنة التي يُراد منها التوفر على مزيد من الامتثال في نهاية المطاف.
المنافس للدين في هذه الوظيفة الروحانية/ الوجدانية هو الأدب بالدرجة الأولى. عندما يغيب الدين يحضر الأدب ـ بقوة ـ كبديل، وأيضا، عندما يغيب الأدب يحضر الدين ـ بقوة ـ كبديل، أو يحضر الأدب مُدَيَّنًا؛ والدين مُؤَدَّبًا، كما هو الحال في طغيان المد الصوفي على "الحالة الدينية" لتتجاوز ـ شمولا واحتكارا ـ رسومَ الحد العقلاني في التشريع العملي، وصولا إلى الروحاني الخالص أو شبه الروحاني الخالص.
إذن، ثمة تشابه كبير بين الدين والأدب؛ من حيث اشتغالهما على منطقة "المُتَخَيَّل الجَمْعي"، ومن خلال تقارب الأداء الوظيفي المتقرر ـ عُرْفًا ـ لهما. ولكن، هذا التشابه، لا يقود إلى مسار تعاضدي بالضرورة، بقدر ما يقود إلى مسار تنافسي في الغالب؛ لا ينشأ أصلا عن الحراك الاستنفاعي للفاعلين في كلا الحقلين فحسب، وإنما ينشأ أيضا من تعارضٍ شبه مُطّرد في جوهر المضمون المضفور بمسالك عملية، يصدر عنها أو تصدر عنه. ما يعني أن الأمر يتجاوز مستوى التعارض في مستوى التصور الفردي الخاص، إلى مستوى التعارض في العملي العام؛ مهما بدا الأدب فرديا وخاصا.
إن التشابه بين الدين والأدبي هو الذي جعل مناوئ الإسلام في بدايته الأولى يصفون نبي الإسلام بأنه "شاعر"، وليس "نبيا"؛ لإحلال الأدبي الأقل قدسية والأقل فاعلية، بديلا للديني الذي يمتلك مشروعا لتغيير نمط الحياة. {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} (الطور 30) وأيضا، {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} (الأنبياء5). هكذا، كانت الإحالة ـ إبان الصراع على القُدْسي الديني ـ إلى أقرب شبيه، أي إلى الشعر، إلى القصص المتخيلة، إلى الأحلام، أي إلى منطقة الأدب كمتخيّل جمعي؛ ليسهل التصدي له بأدب مُمَاثِل/ مُضَاد. فمن السهولة بمكان المجيء بشاعر أو عدة شعراء، بقاص أو بعدد من القُصّاص، ولكن من المستحيل المجيء بنبي ورسالة تربط ذاتها بالسماء.
من هنا، ومن منطقة التشابه، يؤكد النص الديني والإسلامي تعارضه مع النص الأدبي/ الشعري، على مستوى الوظيفة؛ كما على مستوى توجهات المضمون. يقرر النص القرآني بداية: النص الديني نص هداية، بينما النص الأدبي/ الشعري نص غواية. والحِراك داخل الديني هو حِراك اتباع، وانسراب في طريق واحد، هو طريق الحق؛ ولا حق سواه، بينما الحِراك في الأدبي/ الشعري هو حِراك تَمَرّد وانشقاق وتشرّد أهْوَائي في مسالك مُتَعدِّدة مُتَباينة، ثم هو انجذاب إلى فضاء القول المنفصل عن الواقع. ولهذا جاءت إدانة الإبداع الشعري صريحة في القرآن. {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} (الشعراء 224-226). ولم يكن الاستثناء من هذه الإدانة إلا لأولئك الذين تنازلوا عن هذا البُعْد التمرّدي الانشقاقي الأهوائي المنفصل عن الواقع، والتزموا بصراطية الدين وبواقعية الدين وبأخلاقية الدين، أي تحوّلوا ـ حقيقةً ـ من الأدبي إلى الديني، من أقصى التمردي إلى أقصى الامتثالي.
لقد بدا واضحا أن الديني الحق في خِصَام مع الأدبي الحق. قد يتواءم الديني السطحي مع الأدبي السطحي. ولكنَّ شيئا جوهريا في هوية الدين وفي وظيفته يتعارض جذريا مع شيء جوهري في هوية الأدب و في وظيفة الأدب. وهذا ما أدركه النقاد القدامى، حتى أولئك الذين كانوا من عُشّاق الأدب، وفي الوقت نفسه على مستوى واضح من الامتثال الديني. فالأصمعي يؤكد أن ثمة تعارضا بين الديني والأدبي، ويقول صراحة: الشعر نكدٌ بابه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف ولَان، هذا حسان بن ثابتٍ فحلٌ من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره، وقال مرة أخرى: شعر حسان في الجاهلية من أجود الشعر، فقُطع مَتنه في الإسلام.
من هنا، كان الشعراء المبدعون منذ الجاهلية هم الشعراء المتمردون، الذين هم "في كل وَادٍ يهيمون". امرؤ القيس، طرفة، عنتر، الأعشى. بينما زهير بن أبي سلمى ـ مثلا ـ لم يَرْفعه أدبيا إلا رُواة الشعر من المسلمين الذين استحسنوا المنحى الأخلاقي في شعره (لاحظ ثناءَ عمر بن الخطاب على شعره بمبررات أخلاقية). وفي صدر الإسلام، ورغم كل التحولات، كان الشاعر الأول هو الحطيئة، وهو ـ في الوقت نفسه ـ الأشد تمردا والأبعد في شوط الانشقاق.
لقد استمر الأمر على هذا المنحى التمايزي طوال تاريخ الإسلام. فالأدباء الكبار المبدعون جدا، كأبي نواس، والجاحظ، والتوحيدي، وأبي تمام، والمتنبي، والمعري، كلهم كانوا يُمَثِّلون تمرّدا وخروجا على مواضعات الامتثال التي تجد أشد مساراتها صرامة في الامتثال الديني. كل هؤلاء الأدباء متهمون في أديانهم وأخلاقهم، ليس منهم إلا مَن رُمِيَ بالزندقة والإلحاد بدرجة ما، أي ليس منهم إلا من كان من الغاوين !
وفي العصر الحديث، نجد أن كبار شعراء العربية، من أحمد شوقي، وحتى كبار شعراء الرومانسية العربية، كجبران، ونعيمة، وإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وإيليا أبو ماضي، والشابي، ونزار قباني. وأيضا، شعراء الحداثة، كالسياب وصلاح عبد الصبور، ونازك الملائكة، وأمل دنقل، والبياتي...إلخ كلهم كانوا يُمَثِّلون ظاهرة تمرّد وانشقاق على أكثر من مستوى. بينما نجد أن مُدَّعِي الأدب من الامتثاليين قد طواهم الزمن ولفظتهم ذاكرة التاريخ الأدبي.
وحتى عندما تجاوز الأدب العربي تاريخه، أي تجاوز مرحلة كون "الشعر ديوان العرب"، وأصبحت الرواية هي ديوان العرب، بقى الأدب حاضرا كإبداع بوصفه تمردا وخروجا، وبقي هذا هو الأدب بحق، وانطفأت كل محاولات القص الأخلاقية الساذجة، وماتت حتى في مستوى ذائقة جمهورها المستهدف: الجمهور الأخلاقي. بل لقد تحوّلت الكتابات الأدبية ذات المنحى الديني أو الأخلاقي الامتثالي إلى ظاهرة مستهجنة بل وسخيفة، ولم تكن محاولات تنظيم الإخوان المسلمين لابتداع "منهج الأدب الإسلامي"، والتنظير له، وترسيمه في مناهج دراسية جامعية إلا ظاهرة بائسة تشهد على الفقر المدقع في الموهبة، بل على انعدامها أصلا، كما تشهد ـ في الوقت نفسه ـ على سذاجة التفكير الأدبي/ النقدي.
في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخرة، حاول الامتثالِيّون ـ دينيا وأخلاقيا ـ الانخراط في سلك الأدباء؛ مع وعيهم بانعدام الموهبة من جهة، وبالعجز عن تحقيق شرط التمرد والخروج والانشقاق على السائد المجتمعي من جهة أخرى. وليقينهم بالفشل مُعزّزا بتجارب الواقع (فشل كل الكتابات الشعرية والروائية المدفوعة بأيديولوجيا دينية وأخلاقية)، اختاروا الدراسة الأكاديمية سبيلا إلى تحقيق مكانة أدبية مستعصية، أي لتكون الشهادة الأكاديمية شافعة لتمرير النصوص التافهة، وـ بدافع أيديولوجي ـ لتمرير المضمون الديني والأخلاقي لتيار امتثالي، بل لتيار متزمت أشد ما يكون التزمت والانغلاق، رغم كل دعاوى التحرّر والانعتاق.
ومع أن كل هذه المحاولات المُتَلَصِّصة على فضاءات الحقل الأدبي فشلت فشلا ذريعا، بل ومخجلا، إلا أنها لا تزال تتكرر، خاصة عند فقراء المواهب، أولئك الذين لا يزالون يُحاولون ويُكرِّرون المحاولة تحت مبدأ: إن لم نربح شيئا، فلن نخسر شيئا. وتكون النتيجة تَتْفِيه الأدب وتحقيره؛ بتشويه المجال التداولي الأدبي بمثل نِتَاج هؤلاء الذين لا يمتلكون من مقومات الأدب وشروطه إلا رغبتهم الحالمة الساذجة في أن يصبحوا أدباء.
أخيرا، لا بد من إدراك أن الأدب حقا هو إبداع متمرّد يقع بالضرورة خارج الأنماط السائدة اجتماعيا. الأدب ليس انعكاسا آليا لواقع ثقافي أو أخلاقي أو اجتماعي، فضلا عن يكون تكريسا لما يَعُدّه المجتمع ثقافة أو أخلاقا. وأي منتج كتابي يتغيا الأدبية؛ يخسر تماما كونه أدبا؛ عندما يكون مجرد وسيلة ممتهنة لتمرير هموم أيديولوجية ذات طابع امتثالي تنميطي، هموم أيديولوجية تُؤسِّس للسكون والبلادة والخمول، وتُدِين عنفوانَ التمرد والانشقاق على السائد الثقافي، ومن ثَمَّ على السائد المجتمعي.