المرتزقة الروس يعملون في أفريقيا
المرتزقة الروس يعملون في أفريقيا

منذ ربيع هذا العام، تركز الاهتمام العالمي بشكل كبير على أوروبا الشرقية، وحرب روسيا العدوانية ضد أوكرانيا المجاورة. صعدت الولايات المتحدة وأوروبا ضغوطها على الكرملين في محاولة لإقناع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأن يغير موقفه. لكن بالنسبة للعديد من شركاء واشنطن الأجانب، تظل الأزمة بعيدة المنال.

هذا صحيح بالتأكيد في أفريقيا، كما علمت خلال رحلة بحثية أخيرة إلى القارة. المسؤولون الإقليميون هناك منشغلون الآن بالآثار الجانبية الحتمية للحرب الروسية الجديدة، مثل مسألة ندرة الغذاء التي تلوح في الأفق، واضطرابات الطاقة المتعاقبة، والتي يمكن أن تزعزع استقرار السكان المعرضين للخطر. علاوة على ذلك، ليس لديهم الكثير ليقولوه بشأن عدوان موسكو المتجدد على جارتها الغربية.

كن هذا لا يعني أن الأفارقة ليسوا قلقين بشأن الكرملين. على العكس من ذلك، سارع العديد من المسؤولين والخبراء الذين تحدثت معهم، إلى التأكيد على شيء غالبا ما يتم تجاهله في الغرب: وهو أن روسيا تنتهج الآن استراتيجية منسقة لبناء نفوذها في القارة.

ويقولون إن موسكو موجودة في أفريقيا بطريقة أكثر جدية واستدامة مما هو مفهوم بشكل عام سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة. شهدت السنوات الأخيرة توسيع وجودها في جميع أنحاء القارة من خلال إنشاء ترتيبات لقواعد عسكرية جديدة، ونشر القوات غير النظامية (أبرزها مجموعة مرتزقة "فاغنر") في النزاعات الإقليمية في موزمبيق، ومالي، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وليبيا، وزيادة مبيعات الأسلحة لعدد من أنظمة القارة.

وتم الإبلاغ عن هذه التحركات بشكل متقطع في الصحافة الغربية، واعترفت حكومة غربية واحدة على الأقل بأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يبدو أنه جعل إفريقيا "أولوية قصوى". ومع ذلك، فإن النطاق الحقيقي لمخططات روسيا وترسيخ فسها في أفريقيا لايزال غير مفهوم بشكل صحيح من قبل المراقبين الغربيين. وعلى النقيض من ذلك، فإن المسؤولين الأفارقة مقتنعون بأن روسيا تنتهج استراتيجية طويلة المدى تتضمن "محاولة تغيير طريقة عمل الجيوش في القارة" وجلب المزيد والمزيد من الدول الإقليمية إلى فلكها الجيوسياسي.

خذ على سبيل المثال الروابط المتنامية بين روسيا والجزائر. لقد وجد هذا البلد نفسه بشكل متزايد في موقف ضعيف على مدى العامين الماضيين، نتيجة للخلل السياسي الداخلي والتطورات الدولية الإيجابية التي سمحت لمنافسه الإقليمي، المغرب، بأن يتفوق عليه بشكل حاسم على المسرح العالمي. وقد دفع هذا الجزائر إلى شراكة استراتيجية فعلية مع موسكو.

أجرى البلدان الآن محادثات حول توسيع العلاقات التجارية والتجارية، واحتلت الجزائر مكانة بارزة في منتدى سانت بطرسبيرغ الاقتصادي، الذي عقد الشهر الماضي، في ثاني أكبر مدينة في روسيا، حيث وصف المسؤولون الروس العلاقات بين البلدين بأنها "شراكة استراتيجية فعالة". التنسيق المتزايد بين موسكو والجزائر واضح أيضا في التعاون العسكري المكثف في الأشهر الأخيرة، والمناورات المشتركة في المنطقة المخطط لها الآن في الخريف المقبل. والجدير بالذكر أن هذه التدريبات، على الرغم من أنها تهدف ظاهريا، إلى الرد المشترك على الجماعات "غير الشرعية"، سيتم تنفيذها بالقرب من الحدود الجزائرية المشتركة مع المغرب، وبالتالي إرسال رسالة لا لبس فيها مفادها أن الدعم الروسي يساهم في النزعة العدوانية الجزائرية.

على نطاق أوسع، يؤدي وجود روسيا في القارة إلى تكثيف الصراعات المستوطنة في المنطقة. على سبيل المثال، أثارت الفظائع الموثقة التي ارتكبتها القوات المرتبطة بالروسية في جمهورية أفريقيا الوسطى، وصمت الحكومة نفسها، التوترات العرقية والطائفية بين السكان المحليين. وهذا مجرد غيض من فيض. جوزيف سيغل من مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية التابع للجيش الأميركي أوضح أن "ما تفعله روسيا هو نشر المرتزقة والمعلومات المضللة، والتدخل في الانتخابات، وإبرام صفقات الأسلحة مقابل الموارد والعقود المبهمة ... التي تهدف إلى تحقيق نفوذ أوسع".

كما أن الحرب الحالية في أوكرانيا لم تغير هذا المسار بشكل هادف. شهدت المراحل الأولى من الصراع عثرات كبيرة للجيش الروسي، ما تسبب في انتكاسات دفعت الكرملين إلى السعي للحصول على تعزيزات لجهوده الحربية من الحلفاء في الخارج. ومع ذلك، تم رفض مطالب موسكو في الغالب، ما أجبرها على إعادة تمركز قواتها غير النظامية (بما في ذلك تلك المنتشرة في أفريقيا) حتى تتمكن من المساهمة في القتال بأوكرانيا.

لكن المسؤولين والمراقبين الأفارقة مقتنعون بأن مثل هذا التحول مؤقت. إنهم يتوقعون تماما عودة القوات الروسية (بما في ذلك القوات غير النظامية) إلى أفريقيا بشكل جماعي في المستقبل، حيث تمضي موسكو قدما في خططها لتوسيع تواجدها الإقليمي.

يشير كل ذلك إلى أن القارة، بالنسبة للكرملين، قد برزت كأولوية استراتيجية جادة، وساحة معركة جديدة في صراعها مع الغرب على النفوذ.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.