أكثر ما التقطته عدسات الكاميرات كانت المصافحة بقبضات اليد بين الرئيس الأميركي جو بايدن، ووليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قبيل بدء قمة جدة للأمن والتنمية، وعلى ضفاف هذه الصورة نُسجت الكثير من القصص، وكانت منطلقا لقراءة وتقييم العلاقات الأميركية السعودية، وسيناريوهات متعلقة بـ "الغالب والمغلوب" في صراع، ومكاسرة سياسية استمرت منذ ترشيح بايدن لانتخابات الرئاسة، وحتى انتصاره على الرئيس الأميركي السابق ترامب، وتسيده البيت الأبيض، مرورا بكل تفاصيل التصريحات عن "نبذ" السعودية، وانتهاء بوصوله الى مطار جدة.
بالتأكيد لم تكن مصافحة القبضات بين بايدن وبن سلمان قصة عابرة، أو بروتوكول صحي مرتبط بالحماية من فيروس كورونا، بل تعمد بايدن والإدارة الأميركية أن توحي، وتوصل رسالة عبر وسائل الإعلام، وخاصة الأميركية أن العلاقات مع بن سلمان ليست "سمن على عسل"، ولم نعف ُعنه حتى الآن، ولم نلتقفه بالأحضان.
ولهذا ظل الإعلام الأميركي يدور حول سؤال؛ ماذا قال بايدن لولي العهد السعودي عن قتل الصحفي جمال خاشقجي؟، وهل اتهمه بالضلوع بذلك، وهل حمله المسؤولية؟، وبعيدا عن بشاعة الجريمة، ورفضها، أعجبني ندية المسؤولين السعوديين في الرد على الأسئلة، والاستيضاحات الأميركية، وتذكيرهم بالجرائم، والانتهاكات، والأخطاء، والخطايا الأميركية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما حدث في سجن أبو غريب في العراق، أو تأكيدات الاستخبارات الأميركية بوجود أسلحة دمار شامل بحوزة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وتبين لاحقاً أنها أكذوبة، وبروبجندا لتبرير غزو العراق، واحتلاله.
جاء الرئيس الأميركي بايدن إلى قمة جدة طامحا باستعادة دور الولايات المتحدة في المنطقة، وآملاً في وقف التدهور الذي صنعته الحرب الروسية على أوكرانيا في أمن الطاقة والغذاء، وأطلق شعارات، ومبادرات لإدماج إسرائيل، ترافقت مع أحاديث، ومعلومات عن تشكيل "ناتو عربي" مع إسرائيل للتصدي للخطر الإيراني.
قُبيل أن تحط طائرة الرئيس بايدن في مطار جدة كانت زيارته لإسرائيل، وتكراره لمقولته المستفزة "ليس عليك أن تكون يهوديا لكي تكون صهيونيا" كافية لصناعة رأيا شعبيا، وإعلاميا عربيا مُعاديا، وزاد الطين بلة "إعلان القدس"، وهذا الحرص المبالغ فيه على تحصين إسرائيل وحمايتها، دون تقريعها على انتهاكاتها المستمرة للقانون الدولي، ودون حتى إعلان موقف حاسم من الاستيطان، والاكتفاء بشعارات لا تملك أي آلية للتطبيق عن حل الدولتين، ولقاء عابر وسريع مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لا يفتح كوة في مسار السلام المُعطّل منذ سنوات، بل زاد الهوة حين أكد بايدن في حديثه أن حل الدولتين "ليس في متناول اليد"، واكتفى لصرف الأنظار عن الانسحاب الأميركي الفعلي من عملية السلام بتقديم مساعدات شحيحة للفلسطينيين مرتبطة بالأونروا، والإغاثة، ودعم القطاع الطبي.
أزمة الثقة بالإدارة الأميركية تعمقت عربيا، حتى عند الزعماء العرب، وتُدرك العواصم العربية قبيل حتى الحرب في أوكراينا أن واشنطن أدارت ظهرها، وأولوياتها تبدلت، وفي هذه الأجواء كان "الفتور" سيد الموقف في استقبال سيد البيت الأبيض، والاحتفاء برقصة "العارضة" الذي استُقبل بها الرئيس ترامب حين عُقد مؤتمر الرياض عام 2017 مشهد لم، ولن يتكرر مع بايدن، ولا أعتقد أن يحلم به.
وكالة أنباء رويترز وصفت أول زيارة للرئيس بايدن للمنطقة بأنها خلت من تحقيق إنجاز كبير، وتساءلت إن كانت هذه الزيارة تستحق كل هذا العناء، وواقع الحال عدا بيان صِيغ بتوازن، وتحدث بلغة عمومية، فإن الإدارة الأميركية لم تحقق ما كانت تطمح إليه، وباستثناء فتح الأجواء السعودية أمام الطائرات الإسرائيلية، ووعود بزيارة ضخ النفط للأسواق، وهدنة في اليمن، فإنه يمكن المبالغة والقول إن "بايدن عاد بخُفيّ حنين".
البيان الصادر عن قمة جدة فيه تكرار للشعارات، والكلام الذي يُقال منذ سنوات، فهو يُعيد التأكيد على الالتزام بأمن المنطقة، ودعم الجهود الدبلوماسية لتهدئة التوترات الإقليمية، وتعميق التعاون الإقليمي الدفاعي، والأمني، والاستخباراتي لضمان حرية وأمن ممرات الملاحة البحرية.
ويُعيد البيان ذات العبارات عن تكثيف الجهود لمنع إيران من تطوير سلاح نووي، والتصدي للإرهاب وكافة الأنشطة المزعزعة للاستقرار، وتطوير قدرات الدفاع، والردع المشتركة إزاء المخاطر المتزايدة لانتشار أنظمة الطائرات المُسيرة، والصواريخ المُجنحة، وتسليح الميليشيات الإرهابية، والجماعات المسلحة.
بجردة بسيطة، وسريعة فإن إدماج إسرائيل بشكل أكثر تسارعا أمر لم ينجح في تحقيقه الرئيس بايدن، ومُنجز ترامب في اتفاقات ابراهام، وولوج قطار التطبيع إلى الإمارات، والبحرين، ثم السودان، والمغرب قد توقف، والطموح بسبق جديد، واختراق جدران الممانعة في إبرام اتفاق بين إسرائيل والسعودية حلم بات مؤجلا إلى إشعار آخر.
بلغة حاسمة قطعت القيادة السعودية الحديث عن احتمالات أن يكون فتح الأجواء مقدمة لخطوات تطبيع أخرى مع إسرائيل، وبلغة لا تخلو من الندية ربط وزير الخارجية السعودي التقدم في مسار التطبيع بقبول إسرائيل بمبادرة السلام العربية، وخطابات معظم الزعماء العرب المشاركين في القمة كانت مفاجئة، وغير سارة للرئيس بايدن، فجلهم اعتبروا أن حل قضية فلسطين مفتاح السلام، والاستقرار في المنطقة، والعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني كان حاسما "لا أمن ولا استقرار في المنطقة دون حل القضية الفلسطينية، وإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967".
كتب توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز مقالا لافتا للانتباه، فهو يرى أن الاحتلال الإسرائيلي أصبح منفراً، وخاصة بين اليهود الليبراليين في أمريكا، ولو استمر الوضع في هذه الطريقة، فربما يكون جو بايدن آخر رئيس ديمقراطي مؤيد لإسرائيل.
ويذهب فريدمان للاعتقاد أن السلام مع السعودية هي الجائزة الكبرى التي كانت تطمح لإنجازها الإدارة الأميركية، ولو حدثت ستفتح أبواب السلام مع كل العالم الإسلامي، ومنفذ على كمٍ هائلٍ من الاستثمارات، ولهذا فإن هذا السلام لن يأتِ مجانا، ويعرف وليّ العهد السعودي أن الرياض لو عقدت صفقة رخيصة مع إسرائيل ستفتح المجال أمام "عدوتها" إيران لتشن حرب إعلامية ضد المملكة في العالم الإسلامي، وستكون حرب قبيحة.
لم تعد الرياض تؤمن أن كل أوراق الحل بيد واشنطن، وهو موقف يتشاطر فيه أكثر الزعماء العرب، لذلك وجدت فكرة "الناتو العربي" الذي يمهد الطريق لتسلل إسرائيل إلى الحضن العربي فيتو، وبسخرية علّق وزير الخارجية السعودي بأنه لم يسمع بهذا الكلام في القمة، وعلى ذات المنوال فإن القمة لم تقبل الإملاءات، والشروط الأميركية في فتح معركة مع طهران لحساب إسرائيل، ولم تقبل في البيان بعبارات عدائية ضد روسيا، والصين، التي تخوض واشنطن ضدهما معارك سرية، وعلنية.
سياسة النأي بالنفس كانت واضحة، وغلبت على لغة قمة جدة، فمعركة أوكرانيا ليست معركة يخوضها العرب نيابة عن أميركا، وأوروبا، ولن يقبلوا أن يكونوا حطبا يُحرق في النزاع مع روسيا، وأكثر ما يمكن أن تقدمه دول الخليج زيادة ضخ النفط بالتوافق مع "أوبك بلس" في اجتماعها أوائل الشهر المقبل.
تشاركت روسيا وطهران في تقزيم قرارات قمة جدة، فنائب وزير الخارجية الروسي يصفها بأنها غير مُجدية، ولم تحقق أي نتائج، والخارجية الإيرانية ترى أن واشنطن لجأت في القمة إلى سياسة "إيران فوبيا" الفاشلة بهدف إحداث فتنة في المنطقة، وتأزيمها.
في كل الأحوال فإن قمة جدة أسفرت عن تتويج الأمير محمد بن سلمان، وكل الشعارات الأميركية لمعاقبته، وعزله سقطت، وهو من قاد المفاوضات في ظل ابتعاد الملك سلمان عن المشهد بشكل مُتعمد، وأثبتت القمة أن العالم العربي، وخاصة دول الخليج تملك مقومات الصد، ورفض الخضوع للابتزاز السياسي، ويملكون أوراق قوة تجعلهم يستخدمون - إن أرادوا- النفط سلاحا في معاركهم، في استعادة لمشهد تلويح الراحل الملك فيصل بقطع النفط إبان حرب أكتوبر عام 1973.
كان الصوت الأميركي خفيضا، وغير مسموع في قضايا حقوق الإنسان، وجلب الدول العربية إلى فضاء الديمقراطية، وقواعدها الناظمة لم يكن أولوية في قمة جدة، فالمصالح طغت، ومحاولة قطف الثمار تقدمت، وهذا السر بات يفهمه الزعماء العرب، ويعلمون أن كثيرا من الشعارات ليست سوى كلام في كلام عابر، يمر دون استحقاقات، وما فهموه أكثر أن وضع بيضهم كله في السلة الأميركية ليس فعلا محمودا في هذا الزمن الذي تتراجع فيه سطوة القطبية الواحدة.