فاجأتني قناة "الحرة" بطلبها أن أتحدث في اليوم العربي للثقافة، ففي بلادنا يتوج العرب في موسوعة غينيس بأشياء كثيرة ليس منها الإبداع الثقافي، فهم يملكون أعلى برج في العالم، وأكثر عدد من الألماس على زجاجة عطر، وأكبر سباق للإبل، وربما يملكون أغلى اليخوت، والسيارات الفريدة ذات الإصدار الواحد، ومرحاض من الذهب الخالص.
حالة الثقافة العربية أمر يبعث على الحيرة، ويأخذك للقنوط. ففي سباق الأخبار نتقدم بشكل حثيث في مهرجانات الغناء، وفي الإنفاق الخيالي على شراء، وامتلاك القصور، لكنني لم أسمع إلا نادرا عن اهتمام الأثرياء العرب بإنشاء "وقفيات" لدعم حركة الثقافة.
ما زلنا أسرى الماضي، نسترجع عصر النهضة قبل قرون، حين كان العلماء، والمبدعون في عهد الإسلام يقدمون للإنسانية إرثا، وسبقا علميا، واختراعات تركت بصمتها حتى الآن في كثير من مناحي الحياة.
ما زال ابن خلدون حاضرا في مقدمته لعلم الاجتماع، والخوارزمي في ميدان الفلك والرياضيات، وأبو بكر الرازي في الطب، والكندي في البصريات، وابن بطوطة، وابن الهيثم، وابن رشد، والقائمة تطول بجهود علماء، ومبدعين، حفظت سيرتهم في العالم، وساروا على خطاهم في الإنجاز والبناء، ولا تتذكرهم الحكومات العربية إلا في سردية استحضار مجد قديم لم يحافظوا عليه أبدا.
مضحك، ومدعاة للسخرية احتفالنا بأيام الثقافة، وباختيار عواصم عربية للثقافة، والمفارقة أن وزارات الثقافة في بلادنا منسية، ولزوم ما لا يلزم، وتأتي في نهاية القائمة، والمطاف، ووزراؤها لا يتذكرهم أحد، ولولا العيب لما كلفوا أنفسهم عناء وجودها بالأساس.
الثقافة مهمة في خطابات الزعماء، والشعر يحضر لتخليد القادة، وتمجيدهم، غير أن الاهتمام والفعل كله لوزارات الداخلية، ويكفي قراءة سريعة في الأرقام المالية المخصصة للإنفاق على الثقافة، أو البحث العلمي، ومقارنتها مع ما ينفق علنا وسرا على الأجهزة الأمنية لتصمت عن الكلام المباح، وغير المباح.
الإنفاق العسكري لعشرة دول عربية بلغ 110 مليارات دولار عام 2021، وفي ذات السياق، وعلى سبيل المثال؛ فإن ميزانية مديرية الأمن العام في الأردن تزيد عن مليار و400 مليون، وميزانية وزارة الداخلية تقترب من 24 مليون، ولا تزيد وزارة الثقافة عن 10 ملايين، وفي الإمارات أيضا يرصد لوزارة الثقافة 312 مليون درهم إماراتي، في حين تبلغ ميزانية ومخصصات وزارة الداخلية ما يقارب 7 مليارات درهم، والأردن والإمارات ليستا استثناء، بل قاعدة تظهر الاختلالات، وتظهر الصورة قاتمة، فالاهتمام بوزارات الداخلية، وتفرعاتها الأمنية يتربع القمة، فهو يحمي الأنظمة، والثقافة بكل تجلياتها بروباغندا تجميلية.
التحديات التي تواجه إنعاش حركة الثقافة كثيرة، ومهما قيل، أو كتب فإنه أقل بكثير من حرج الأزمة المتفاقمة، وفي المقدمة سؤال يحضر بقوة؛ كيف يمكن للثقافة أن تزدهر في بيئات غير ديمقراطية، لا تدعم حرية التعبير، ولا تصون حرية الإبداع، والابتكار؟
هل يمكن لأنظمة مستبدة في عمومها أن تكون رديفا داعما للمبدعين، والمثقفين؟، والإجابة بمنتهى البساطة، ودون جلد البحث والتفكير؛ لا. فالمثقف، والمخترع لا يعيشان في فضاء القمع، ومشروعيهما يتناقضان جذريا مع السلطة الغاشمة.
هذا الحال من حصار المثقفين، والعلماء ليس وليد أنظمة الحكم العربية الحالية، وإنما تمتد جذوره لقرون خلت، فأكثر العلماء، والمفكرين في العصر الإسلامي اتهموا بالزندقة، والكفر، والإلحاد، والسحر، وبعضهم حبس، وبعضهم نفي، أو فر، ولم يسلم بعضهم من التنكيل، والقتل. والسجل الشرفي لهؤلاء شاهد بدءا من ابن رشد، مرورا بجابر بن حيان، وليس انتهاء بالكندي، والفارابي.
الحصار للعقول، والقيود على حركة الإبداع والتجديد في عالمنا العربي سبب رئيس للمشكلة، فالإنسان العربي المهاجر يتألق، ويبدع، ويحفر اسمه في سجل الخالدين في أوروبا، وأميركا، ولهذا فإن هجرة العقول، ونزوحها ظاهرة خطيرة، ومقلقة، ومنظمة العمل العربية، واليونسكو تؤشران إلى أن ثلث هجرة الكفاءات من الدول النامية، والأرقام، والإحصائيات المتوفرة تقول إن 50 بالمئة من الأطباء، و23 بالمئة من المهندسين، و15 بالمئة من العلماء العرب يهاجرون إلى أوروبا وأميركا، وأن أكثر من 54 بالمئة من الطلبة الذين يدرسون بالخارج لا يعتزمون العودة لبلدانهم.
حكاية الشاب "قتيبة" في الأردن تُروى دائما عند الحديث عن هجرة الشباب، فقتيبة خاطب رئيس الحكومة، آنذاك، د. عمر الرزاز يسأله إن كان ينصحه بالهجرة حتى يعمل، ويضمن مستقبله، فإجابه الرزاز بكلمته الشهيرة "لا تهاجر يا قتيبة"، وبالنهاية لم يضمن الرزاز مستقبلا آمنا، أو حياة كريمة لـ "قتيبة"، وبالتأكيد يعض "قتيبة" أصابعه ندما، مثل كثيرين قرروا أن يلازموا أوطانهم، ولا يرحلون عنها.
تفاقمت مشكلة الثقافة العربية في العقود الماضية، وتعمقت أكثر بعد سطوة، وسلطة منصات التواصل الاجتماعي، فأكثر الناس ثقافتهم بصرية، وسمعية، وجلهم يكتفون بقراءة العناوين، ولهذا ليس مستغربا أن تتحدث الإحصائيات عن أن الإنسان العربي يقضي فقط 6 دقائق بقراءة الكتب بالعام الواحد، وأن كل 80 إنسانا عربيا يقرأون كتابا واحدا في السنة، في حين يقرأ الشخص الإسرائيلي 40 كتابا.
هذه حقائق يمكن أن تستنبطها ليس من الأبحاث والدراسات، ولكن المشاهدات للوقت الذي يمضيه عامة الناس في البلدان العربية على منصات التواصل الاجتماعي، أو في مشاهدة قنوات الترفيه، وسيادة ثقافة "التيك توك"، تكفي للاستدلال أن الثقافة ليست بخير.
لا ينفصل هذا الأمر عن سياق أننا لم نعد منتجين للحضارة، فنحن في أدنى الرتب بالاختراعات، وهذا ينعكس على اللغة فقرا، فإذا لم تكن منتجا للعلم الحديث، فحتما سيكون متاحا بلغة من صنعوها، لا بلغتك، وإن كانت هناك حركة ترجمة، وتعريب فاعلة، فيمكن استدراك القليل، ولكن الطامة الكبرى تحدث حين نعرف أن كل الدول العربية لا تترجم خمس ما يترجم في دولة صغيرة مثل اليونان، ولذلك أيضا فإن المحتوى العربي على الإنترنت لا يزيد عن 3 بالمئة.
يضيق العالم العربي بالمبدعين، فهم لا يشتكون ظلم السلطات الحاكمة التي تريدهم أن يكيلوا قصائد المديح للزعيم الخالد، وإنما يمتد الأمر ويتوسع في بلادنا، فالتهديدات تأتي من قوى مجتمعية متعددة تريد مصادرة التفكير خارج الإرث السائد. فالتيارات الدينية مثلا لا تريد لأحد أن يُغرد خارج سربها، ومنظومة قيمها، مدعيين أنهم حراس الدين والفضيلة، ويكفرون الناس ويُحاسبونهم، وكأنهم وكلاء الله في الأرض.
وما تفعله الأحزاب الدينية تكرره بشكل أو بآخر، القوى التقليدية التي تحكم باسم القبيلة، والعشيرة، ومن يخرج عن سلطتها، أو يحاول أن يجدف خارج منطوق أفكارها تنبذه، وتلاحقه، وتخرجه من جناتها، وما يجب أن يُلاحظ أن هناك خيوطا من التوافق بين أنماط السلطات المختلفة، وتحالفات غير معلنة، وغير مقدسة تتواطأ كلها لإغلاق فضاء التفكير، والعقل، ليبقى الجميع في حظيرتها.
قرون طويلة مرت منذ كنا أصحاب شأن في الحضارة الإنسانية، وقبل أن تتقهقر، وتدب الصراعات على السلطة في أوصالنا، ويظل الصراع بين السنة والشيعة حتى يومنا هذا، نارا تأكلنا، ويستخدم الجميع الدين ذخيرة في حروب داحس والغبراء التي لم تتوقف، وتأتي، وتطل علينا بأشكال جديدة.
استذكرت حادثة سقوط غرناطة، وحضرت بقوة عبارة عائشة أم الأمير أبي عبد الله محمد الثاني المعروف بـ "أبي عبد الله الصغير"، حين قالت له "ابكِ كالنساء ملكا لم تدافع عنه كالرجال"، وتساءلت مع نفسي ماذا سيكون مصير الأندلس لو ظلت حتى الآن تحت حكم عربي إسلامي؟، وتواردت إلى ذهني آلاف الصور لتراث إنساني دُمر، ولم تحفظه السلطات، والحكومات، أو دمره الإرهابيون كـ "داعش" في نقمتهم، وحقدهم الذي لم يسلم منه؛ المساجد، والكنائس، وتماثيل خُلدت بالتاريخ.
وأستذكر هذه المقولة حين أسمع التباكي على حضارة عربية صنعت قبل قرون، ولم يصونوها، واكتفوا بالنواح على أطلالها.