سلمان رشدي
منذ أواخر الثمانينات وحتى اليوم، يعيش سلمان رشدي في حالة تهديد مستمرة

حين كتبت أستنكر محاولة قتل سلمان رشدي، تقاذفتني كلمات غريبة يفترض ألا محل لها جوارا مع فكرة القتل، كلمات مثل "احترام" و"حرية" وغيرها مما لا يمكن أن تكون مبررات لجريمة شنيعة إلا في عالمنا العربي الإسلامي غريب الأطوار. ولقد أتت الردود التويترية في معظمها لتشكل حالة عصابية يدمج فيها المغردون فكرة احترام الأديان والمعتقدات و"الحرية التي تقف عند حريات الآخرين" بحالة سيكوباتية من الشتم وتمني الأذى ليس فقط لمؤلف آيات شيطانية، ولكن كذلك لي أنا لمجرد كتابة تغريدة أعرف بها محاولة اغتيال رشدي بأنها جريمة جماعية "ساهم فيها كل صوت كاره أفتى وحرض وشجع. العنف جهالة واعتراف بالضعف، أصحابة لا يعرفون رد الكلمة بالكلمة ولا مواجهة الرأي بالرأي."  

هذه التغريدة أعلاه أوردتني أمنية تويترية: "أن يرزقك الله برجل يفعل بك مثل ما فعل بسلمان رشدي فكلكم وجهان لعملة واحدة" كما كتب أحد المغردين، وهي تغريدة لا تحمل تهديدا مبطنا فقط، بل تدخل في مجال "ازدراء الذات الإلهية" لو كان للعقل والمنطق مكان في الحوار. كيف يمكن إلباس فعل شنيع كالقتل الاغتيالي الجبان للإله الذي يفترض أنه رب الرحمة والسلام؟ كيف يمكن التسويق لفكرة أن الإله العادل الرحيم يقبل بل ويشجع ويحرض على بل ويبعث مندوبيه من البشر لتنفيذ فكرة قتل مفاجئة جبانة؟ وكيف يمكن تصور أنه من المقبول الدعاء للإله بإيذاء إنسان آخر بل وبالتخطيط لاغتياله؟ أي عقل مريض يمكن أن يجمع هكذا متناقضات أو يتصور هكذا جرائمية في خالق ومسير الكون؟ أي شعور بالأمان يمكن أن يتحقق لاحقاً لو اعتقد البشر هذه الصفات في إلههم العادل الرحيم؟

تواردت التعليقات حاملة ذات الملمح العنيف، محملة بداية بالشتائم والاستصغار ومرتفعة لحد التهديد والوعيد مما يدلل على حالة جمعية سيكوباتية تحتاج لمعالجة حقيقية وسريعة. كلنا نعلم أن وسائل التواصل هي انعكاس لأسوء وأظلم جوانب نفوسنا البشرية، ذلك أن الشاشة الفاصلة بين الناس المتواصلة والأسماء الوهمية التي تغطي شخوصهم كلها توفر غطاءاً كفيلاً بتأمين خروج البشاعة بل وأحياناً بالتشجيع عليها. وعليه، لا يفترض بوسائل التواصل أن تكون مقياساً علمياً، إلا أنها بالتأكيد توفر منظوراً عاماً وتعطي دلائل مهمة على واقع الحال، وهو واقع سيء عندنا بكل ما تحمل الكلمة من معنى.   

منذ أواخر الثمانينات وحتى اليوم، يعيش سلمان رشدي في حالة تهديد مستمرة، خفت حدتها لسنوات، إلا أنها لم تختف نهائياً والسبب أنه كتب كتاباً حاداً ساخراً منتقداً للدين الإسلامي. لماذا يعمد المسلمون لاستخدام ذات الأداة التي تدينهم بالدرجة الأولى لمهاجمة هذه الإدانة؟ أي غباء يوعز باستخدام العنف لإثبات أن الإسلام دين سلام؟ وكيف يبرر المسلمون حميتهم تجاه دينهم ورفض المساس به وبنبيه بأي درجة من درجات النقد، في حين أنهم يكررون مراراً وتكراراً ومن أقدس مواقعهم الدينية، منابر المساجد، أفظع الصفات وأكثر الوعود ترويعاً تجاه الأديان الأخرى؟ أليس اليهود قردة وخنازير، أليس الإنجيل محرف، أليس "اليهود والنصارى" أعداء لا أولياء، أليس الشرق آسيويون عباد بقر، أليست أموال ونساء غير المسلمين حل للمسلمين، أليس الوعد راسخ بسيادة الإسلام عما عداه من أديان في آخر الزمان وبقيام أم المعارك وقتها إبادة لكل من كان غير مسلم وبالأخص اليهود؟ حلال للمسلمين أن يستعلوا على بقية الأديان، يسخروا من عباداتهم وأفكارهم، يشتمونهم بصريح الألفاظ النابية، يصمون كتبهم المقدسة بالانحراف، يحضون على العنف تجاههم، بل ويهددون البشرية جميعاً في آخر الزمان، وحرام على أحد أن ينتقد الإسلام وكتابه ونبيه بحجة "احترام الدين" و"حدود الحرية"، فعلاً والله؟

في عالمنا العربي الإسلامي تقطن جماعة، كلنا جمعياً، تعتقد أنها تمتلك الحق المطلق، تعتقد أنها وجدت الله وأن الله أوجدها لينفذ من خلالها مشيئته، تعتقد أنها تمتلك الأرض بأكملها، تلك المغتصبة منها حالياً والمردودة لها في آخر الزمان، كيف يمكن أن تقنع جماعة لها هذه القناعة الجمعية بفكرة قبول الآخر ومسالمته وهي أصلاً تصر أن لب عقيدتها هو جهاد هذا الآخر وقتله واسترداد الأرض وما عليها منه؟ ستبدو فكرتي التعايش والحرية سخيفتين حين توجيههما لجماعة لا ترى الحرية إلا ضمن حقوقها ولا تعرف التعايش إلا مع من يقول لها آمين ولا إيمان في عمقها أصلب من إيمانها بأنها خير أمة، مهما فعلت، أتت لتنقذ البشرية وتمتلك الأرض وما عليها والتي هي حق موروث لها كما يخبرها مشايخها، وهي في سبيل ذلك ستريق كل دماء الأرض لو تطلب الأمر، ومن يموت من أفرادها مجاهداً سيصعد للجنة حيث الخيرات والمتع. حقيقة، لماذا تنحو أمة تفكر بهذه الطريقة للسلام؟ أي واعز لها به؟

لا شك أن الموضوع أكثر اتساعاً من مجرد قراءة دينية وفهم عقائدي، فهناك تاريخ دموي طويل ممتد وحاضر سياسي أيديولوجي قمعي يدفع بالأمة العربية الإسلامية للكثير من الانحيازات والتطرفات، إلا أن هذه التبريرات لم تعد تحمل ثقلها بعد الآن. الواقع المتردي غير خفي على أحد، والسياسات الغربية المساهمة في خلق التطرف واضحة ومعلنة، إلا أن أيها، وإن كان مفسراً، ليس مبرراً للعنف ولا مساهماً في الواقع في خلق هذا التعالي الأيديولوجي على بقية البشر. مفهوم الحق المطلق هو المسؤول ومعتقد الوصاية التامة على كل البشر هو المحرض، والاستعلاء تمسكاً بالحق في نقد الآخر والإغلاظ في تفكيك أيديولوجيته وتحريم ذلك عليه هو الدافع، واليقين من أن ثواب عظيم ينتظر "المنفذ" هو المكينة التي تدفع بهذه العجلة البشعة للأمام.   

إن محاولة الاعتداء على سلمان رشدي هي محاولة جبانة لعقلية مهزوزة، عقلية لا تملك رداً وبالتالي لا تقوى إلا على العنف وإسكات الآخر. أمة لا تزال تعتقد بتشريع قتل من يخرج عن دينها، كيف يمكن أن تقنعها بمبدأ الحوار وبحرية الرأي والتعبير؟
 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.