العلاقات التركية الإسرائيلية شهدت تقاربا واضحا مؤخرا
العلاقات التركية الإسرائيلية شهدت تقاربا واضحا مؤخرا

لم يكن "الغزّيّون" قد أكملوا بعد مراسم دفن شهداء عملية "الفجر الصادق" التي قادتها الحكومة الإسرائيلية ضد حركة "الجهاد الإسلامي"، حتى أطلقت تركيا وإسرائيل عملية "عودة الدفء" إلى علاقاتهما الثنائية.

وعلى الرغم من كل التطورات الدولية الخطرة الممتدة من تايوان، مرورا بالانسحاب الفرنسي من مالي بدفع من روسيا، وصولا إلى أوكرانيا، أوجدت هذه القفزة النوعية في العلاقات التركية-الإسرائيلية لنفسها مكانا فسيحا على خارطة الاهتمام الاستراتيجي.

ويسمح التدقيق في خلفيات هذا الحدث التركي-الإسرائيلي بإدراك أنّ أقدم وأكبر صراع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتّجه أكثر فأكثر إلى التخلّي عن الشعارات الحماسية لمصلحة "لغة المصالح".

وفي ضوء هذا الحدث، لم يعد وقوف "حركة حماس" على "الحياد"، طوال الأيّام الثلاثة التي استغرقتها عملية "الفجر الصادق" مجهول الأبعاد، بل بدا وليد تناغم مصري-تركي-إسرائيلي، حيث بات للأبعاد الاقتصادية التي لن يُستثنى قطاع غزّة من نِعَمها دور رائد في رسم معالم المواجهة والتهدئة والسلام والتطبيع.

وتتقاطع المصالح الإسرائيلية والمصرية والتركية في تسجيل تقارب سياسي ودبلوماسي بين دوائر القرار فيها، فمصر وإسرائيل أصبحتا شريكتين تكامليتين مع "الاتحاد الأوروبي" الذي يحتاج إلى غازهما الطبيعي، وتركيا باتت من أكبر الدول استهلاكا للغاز المصري، وهي اليوم تحتاج إلى إسرائيل حتى تتمكّن من أن تتحوّل إلى مركز تسويق لغاز الشرق الأوسط نحو الاتحاد الأوروبي.

ولم يكن هذا الهدف ممكنا في السنوات الماضية، إلّا أنّ "تعطيل" الولايات المتحدة الأميركية مشروع خط الغاز الذي يمتد من إسرائيل ومصر إلى قبرص واليونان، من دون العبور بتركيا، بحجة كلفته المالية المرتفعة جدا، أحيا "الحلم التركي"، في زمن يشهد اقتصاد أنقرة تحدّيات خطرة للغاية قد تكون لها انعكاسات سلبية على الانتخابات التركية المقرّرة بعد سنة واحدة تقريبا.

وبالإضافة إلى الأهداف الاقتصادية المهمّة، فإنّ إسرائيل تطمح في أن يلعب شركاؤها دورا رائدا في قطاع غزّة، من خلال علاقاتهم "الحميمة" مع "حركة حماس"، بحيث تستطيع أن تأخذ الأمن في مقابل الاقتصاد، من خلال إقدام تركيا ومصر على التنسيق مع قطر ودول أخرى بالتعاون مع إسرائيل والمؤسسات الدولية، من أجل توفير التمويل اللازم لمشاريع تنموية واستثمارية في القطاع، الأمر الذي يجعله "منطقة حياة"، بعدما أصبح "بؤرة يائسة".

ومن شأن هذا التطوّر أن يُضعف الجناح الإيراني في "حركة حماس"، وأن يؤدّي إلى تهميش حركة "الجهاد الإسلامي"، ويُنهي حلم "الحرس الثوري الإيراني" بقدرته على تنسيق "انفجار إقليمي".

على أيّ حال، فيما الدول الإقليمية الكبرى تعيد خلط أوراقها، لتوفير مصالحها من جهة واحتواء أزماتها من جهة أخرى، تغرق دول "محور الممانعة" في وحول شعاراتها، فلبنان، على سبيل المثال لا الحصر، حيث تزداد الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية اسودادا، ينتظر الجميع فيه استحقاق سبتمبر المقبل، حيث لم يُنتج قرع "حزب الله" لطبول الحرب سوى عرقلة لمساعي الوسيط الأميركي، آموس هوكستين، الذي كان قد استنجد به المسؤولون اللبنانيون من أجل إعادة إحياء المفاوضات اللبنانية-الإسرائيلية غير المباشرة من أجل التوصّل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية.

إنّ "حزب الله" الذي حاول، من خلال سلوكه التهديدي، أن يقطف ثمار اتفاق تفاءل المسؤولون اللبنانيون، بناء على المعطيات الأوّلية، بإمكان التوصّل إليه، أعاد الأمور إلى الوراء، ووضع البلاد التي يفترض إدخالها، بأسرع وقت ممكن إلى "غرفة العناية الفائقة"، في خطر حرب ستقضي على آخر مقوّماتها، من دون أن تسمح له باستخراج نقطة غاز واحدة.

لو كان "العقل الراجح" يملك الكلمة العليا في لبنان، لكانت المفاوضات اللبنانية-الإسرائيلية قد انتهت إلى اتفاق، أقلّه منذ سنتين، ولكانت شركات التنقيب والاستخراج تعمل بكامل طاقتها على امتداد لبنان، لأنّ النقاط النفطية ليست محصورة لا في الخط 23 ولا في الخط 29، إنّما هي تبدأ بالحدود المختلف عليها مع سوريا والحدود التي جرى رفضها مع قبرص، ناهيك عن نقاط كثيرة لا إشكاليات حولها.

ولكنّ لبنان لا تديره عقول مهتمّة بثرواتها الوطنية وأدوار بلادها الاقتصادية، بل مصالح ضيّقة لمجموعة لا تخشى إلّا على ديمومة سلاحها، لأنّها بهذا السلاح توفّر تدفّق ما أمكن من المال الإيراني، هنا، وتوسّع من هيمنتها على "الشركاء"، هناك. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.