يتطلب نجاح مفاوضات فيينا النووية بين إيران ومجموعة الدول الكبرى إضافة إلى ألمانيا حلّ التفاصيل، ولأن الشياطين تكمن فيها، فإن عقدة التفاصيل لم تزل تؤخر إمكانية التوصل إلى اتفاق جديد أو إحياء القديم. وحتى لو ذهبت الفرق التفاوضية إلى هذه الجولة من المباحثات بمناخات إيجابية توحي بإمكانية الاتفاق، إلا أن التفاصيل عادت لتعطله أو تؤخره، خصوصا أن في كل عقدة تظهر شياطين كثيرة كفيلة بإعادة المفاوضات إلى مربعها الأول.
داخليا، لم يساعد التخلي الإيراني عن مطلب رفع الحرس الثوري من قائمة العقوبات الأميركية إلى حل أزمة رفع الشركات الإيرانية التابعة له من القائمة، إضافة إلى المؤسسات الاقتصادية الأخرى التي تتبع جناحه الاقتصادي والتي تسيطر على جزء كبير من الاقتصاد الوطني، فهذه العقدة ستمنع الشركات الكبرى العالمية وخصوصا الأوروبية أن تتعاقد أو تتعاون مع هذه المؤسسات إذا أرادت الدخول إلى السوق الإيرانية، ما سيهددها بعقوبات من الكونغرس الأميركي.
أما خارجيا فإن بقاء العقوبات على الحرس واستمرار الضغوط الأميركية عليه، سيمثل لإيران عقبة في مشروع نفوذها الخارجي الذي يتولاه الحرس خصوصا في دول مضطربة كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، حيث من الصعب أن تقبل دول وشعوب المنطقة إعادة التجربة السابقة بعد اتفاق 2015 مع إدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، التي كانت سببا في شرعنة الوصاية الإيرانية على هذه الدول، ما أدى إلى صراعات إقليمية وفتن طائفية أدت إلى زعزعة استقرار المنطقة. لذلك فإن طهران التي تعمل من أجل إعادة تعويم مشروع نفوذها ومد أدواتها الخارجية بمزيد من الدعم، يتطلب مقاربة أميركية جديدة مع الحرس الثوري الذي يتحكم بالداخل والخارج، وهذا ما يجعل طهران أمام خيارات محدودة، إما أن تساوم ما بين بقاء الحرس على قائمة العقوبات مقابل رفعها عن مؤسساته الاقتصادية وتخفيف الضغط عن مناطق نفوذه الإقليمية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تصعيد التوترات في منطقة الشرق الأوسط، أما أن يتصرف الحرس بمنأى عن الموقف الأميركي فتكون واشنطن كمن وضع رأسه في الرمل فتعيد تمويل مشروعه بطريقة غير مباشرة.
في عقدة التفاصيل حتى الآن لم تستطع الفرق المفاوضة التوصل إلى حلّ يرضي كافة الأطراف بمن فيهم الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تصر على استكمال التحقيق في ثلاث منشآت نووية إيرانية عثر فيها على نسب مرتفعة من اليورانيوم المخصب، وهذا ما يعزز الاعتقاد بأن إيران تمتلك منشآت نووية سرية بعيد عن أعين الوكالة الذرية، أزمة تحقيق الوكالة الذرية وتحرير حركة المفتشين الدوليين وزيادة عدد كاميرات المراقبة لم تعد شأن الوكالة فقط، فهذه العقدة وكيفية حلها تدخل ضمن مسلمات الأمن القومي الأميركي، ما قد يؤدي إلى خلافات بين مواقع صنع القرار في واشنطن وكيفية التعامل مستقبلا مع قدرة إيرانية عسكرية نووية، وهذا ما سيتحول إلى هاجس إسرائيلي حيث تمارس إسرائيل ضغوطا كبيرة داخل واشنطن، والأخطر أن القيادة الإسرائيلية أعلنت مسبقا أنها غير ملزمة بالاتفاق بين إيران ودول 5+1 ما يطرح فرضية التصرف الإسرائيلي المنفرد مع منشات إيران النووية.
من هنا يمكن القول إن طهران وواشنطن لا تزالان على خلاف بشأن التفاصيل الرئيسية، فيما عامل الوقت بات يضغط على الطرف الأميركي الذي ليس أمامه إللا عدة أسابيع قبل الدخول في أجواء انتخابات الكونغرس التي ستفرض نفسها على المفاوضات. حيث من الممكن أن يستغل الجمهوريون الاتفاق للتصويب على منافسيهم الديمقراطيين خصوصا إن وافقت إدارة بايدن على تقديم تعويضات مالية في حال انسحاب حكومة أميركية مستقبلية من الاتفاق.
لم تكن طهران وواشنطن أقرب إلى الاتفاق من أي وقت مضى بعد تعاملهما بإيجابية مع الاقتراح الأوروبي الأولي الذي كان سببا في الانفراجة التفاوضية، لكن المقترح الأوروبي الذي ربط ما بين تخفيف العقوبات على اقتصاد إيران، بما في ذلك صادرات النفط، مقابل تقليص برنامجها النووي المتقدم لم ينتبه إلى أن الكمائن التي وضعها الطرفان على الهوامش، أدت إلى مزيد من التفاصيل المعقدة التي تسكنها شياطين الطرفين.