عاملة منزلية في المكسيك (تعبيرية)
عاملة منزلية في المكسيك (تعبيرية)

كتبت الأسبوع الماضي حول زهرات تدفنهن الدنيا، بعضهن وهن لا يزلن حيات يرزقن، حيث تدفنهن الحياة في مصير "طويل الأمد"، يعشن معظمه خارج أوطانهن التي لا يعدن إليها إلا مع نهاية حيواتهن. 

كتبت أتحدث عن كراهيتي للكفن، "لليونيفورم" اللواتي تجبر عليه معظم العاملات المنزليات خصوصاً في دولنا العربية وتحديداً الخليجية، ليفصلهن عن بقية المجتمع وليحدد طبقتهن الاجتماعية بوضوح وطبقية فجة. 

ولقد أتت بعض التعليقات لتذكرني بأن هناك العديد من الوظائف التي تتطلب اليونيفورم، وأن الكثير من العاملات المنزليات في الواقع يطلبنه حفاظاً على ملابسهن الاعتيادية، أما "أفضل" ما وصلني فينحصر في أن اليونيفورم يحافظ على نظافة العاملة وتعقيم محيطها، فكرة تصعب منطقتها أو فهمها.

لربما لا توجد وظيفة أخرى لها ذات معطيات وظروف و"قهريات" الخدمة المنزلية، هذه الوظيفة الغريبة التي يصعب تنظيمها قانونياً نظراً للوجود المستمر للعاملة في محيط عملها ونظراً لصعوبة مراقبة ظروف وأحداث سير هذا العمل. 

يصعب جداً تحديد ساعات العمل للعاملة المنزلية، حيث يتطلب ذلك درجة كبيرة من الضمائرية وضبط النفس عند الأسرة المضيفة لتنهي ساعات عمل العاملة ولتتوقف عن الطلبات المنهكة عند ساعة مقبولة من اليوم. تحت هذه الظروف المائعة والغامضة للخدمة المنزلية تحيا العاملات عملهن باستمرار، يصبح هو الحياة اليومية بكل تفاصيلها بشكل لا ينفصل عن أي جانب آخر من الحياة. بالنسبة لهذه العاملات، حياتهن هي العمل، وعملهن هو فعلياً حيواتهن، هو الرواية والأحداث والذكريات. 

تخيلوا معي حياة كل ذكرياتها خدمة آخرين، كل أحداثها غسيل صحون وتنظيف ملابس وتحضير طعام، حياة ليس فيها من سردية غير تلك المكررة عصابياً بشكل يومي كأنها سيناريو فيلم لدائرة زمنية مغلقة، ليوم يتكرر لا يتغير ولا ينتهي. 

لا يوجد ظرف أسوأ "للاختيار" من ظرف العاملة المنزلية، فهي حقيقة لديها مساحة محدودة جداً لتختار، ليس فقط نظراً لوجودها مع "رؤسائها" أربعة وعشرين ساعة في الأربعة وعشرين، ولكن كذلك لأن حياتها ليس فيها سوى العمل، لا تنوع ولا أحداث ولا تغييرات تجعل الاختيار مستحقاً أو مرغوباً، وعلام ستختار ملبس وهي لا تغادر مقر عملها؟ علام ستختار لون بهيج لردائها ولا أحد من محبيها سيراه فيفرح بها ويُفرحها؟ علام ستختار موضة لن تتمتع هي بها في نزهة؟ علام ستختار أصلاً وحياتها كلها تتكرر دون أي إرادة منها لتحكمها أو تصنع خياراتها؟

لقد أتت حجة "هي تريد اليونيفورم" معبرة جداً ليس فقط على غياب شعورنا بمعنى الاختيار ولكن كذلك على غيبتنا التامة عن معاناة ومشاعر وتحولات حيوات هذه النساء اللواتي يحيينن معنا. هناك خيارات في الحياة نُقدِم عليها ليس بإرادتنا بل بسبب من غيابها، بسبب من عيش قهري يغيِّب عمق ومعنى الحياة، وغياب الإرادة والعمق والمعنى يجعل من الاختيار رفاهية لا داع لها. العاملة التي تريد أن ترتدي اليونيفورم طوال أيامها، في المنزل وحتى خارجه، هي تعلنها صريحة أن حياتها باهتة ببهتان لون طقمها، مكررة بتكرار ظروف زميلاتها العاملات وكأنهن كلهن تروس في ماكينة ضخمة بشعة تلف وتدور لتخلق حياة لآخرين فيم هي تهرس حيواتهن بين ضروسها. اليونيفورم فيه الكثير من اليأس، الكثير من فقدان الرغبة في الحياة، الكثيرمن اللامعنى الذي تحياه هذه العاملات خصوصاً وأن هذا اليونيفورم ليس مؤقتاً، بل هو كل ما تراه وتستشعره هذه العاملات من صباحات أيامها وإلى مساءها.

إلا أن إشكالية هذا الملبس لا تنحصر في اختياريته من عدمها، إنما إشكاليته الأعظم تكمن في طبقيته المقيتة التي لا يضاهي قوة بثها أي ملبس آخر. اليونيفورم يحدد "الأماكن" الحياتية طوال الوقت، نحن هنا وأنتن هناك، تماماً كما يحدث في بعض المشاهد المؤلمة من بعض العائلات التي يجتمع أفرادها على طاولة مطعم، مفردين طاولة أو كرسياً مطروفين لتجلس عليه العاملة "أم اليونيفورم" وحدها معزولة في طبقتها. اليونيفورم إعلان طبقي بين العاملة ومستقدمها، وأحياناً بين العاملات بأنفسهن، ودون إرادة منهن، حين تشتري رئيساتهن لهن "يونيفروم" فاخر أعلى ثمناً، في إعلان عن مخملية أرفع درجة للأسرة المستقدمة، مخملية تفرق النساء أكثر عن بعضهن البعض، حتى هؤلاء المقهورات بحد ذاتهن، فتجعل ألم إحداهن أرفع درجة وأكثر مخملية من ألم أخرى. لا يوجد يونيفورم طبقي عنصري أكثر من يونيفورم العاملة، لا يوجد ملبس فج التعبير عن الفروقات المجتمعية والحياتية أكثر من ملبس العاملات الموحد، لا يوجد غياب إرادة وقرار واختيار أكثر من غيابها كلها عن العاملة التي تحيا حياتها كاملة داخل عملها، والتي تمثل أحياناً أنها تختار أشياء صغيرة في حياتها هي تعلم أنها حقيقة لا تختارها. 

العاملة، في الغالب، تلبس المتاح وتأكل المتاح وترتاح في الوقت المتاح، ذلك ليس فقط للغياب الفعلي للقدرة على اتخاذ قرار، ولكن كذلك لغياب الرغبة في اتخاذه، لغياب الدافع والمحفز والشهوة للحياة. أي فرق سيقع إذا لبست العاملة اليونيفورم الأزرق عن الأبيض؟ أي تغيير في إيقاع حياتها سيحدث إذا أكلت خبزاً أو أرزاً؟ الاختيارات الصغيرة هذه تصبح تافهة أحياناً في غياب إطار كبير يختاره الإنسان ويرسمه، فتصبح الحياة "بلا طعمة" كما يقول الشوام الأحبة، ويصبح الاختيار ثقيلاً عديم التأثير.

الأسهل تنفيذ الروتين والسير في الحياة المرسومة، الأسهل ارتداء ذات الطقم كل يوم، بقَصَّته عديمة الملامح، عن التفكير والاختيار، إن توفرا، اللذين ينكآن جراح غياب الحياة الحقيقية. ننسى أحياناً، في خضم حيواتنا المرفهة، أن هناك آخرون يختبرون حياة لا يعتقدونها حتى تستحق مشقة القرار والاختيار، وهذا الشعور يمثل قمة الظلم وقمة التبديد، تبديد لحياة كان يمكن أن تكون، وما تحققت.

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.