كويتيات يشاركن في التصويت للانتخابات البرلمانية عام 2020
كويتيات يشاركن في التصويت للانتخابات البرلمانية عام 2020

تضج الكويت هذه الأيام بالاستعدادات "للعرس الديمقراطي،" التوصيف الذي يطلقه الكويتيون على فترة العملية الانتخابية، هذه الجملة التي اكتسبت معنى كليشيهياً لكثرة استخدامها ولضعف نتاجها. بعيدة أنا عن المشهد الانتخابي هذه الفترة لدواعي السفر، مما يتيح فرصة جيدة لمراقبة الصورة من بعيد.

أحداث تتكرر، خطابات رنانة تتجدد، استجداءات واستعطافات انتخابية تتبدى، ونفس المناورات والمداورات السياسية تستفيق من سباتها الذي نعرف كلنا أنه ليس فعلاً بسبات، إنما هو عمل مستمر مستتر يمتد على مدى سنوات فيما بين مواقيت الانتخابات البرلمانية وإلى حين وصول موعد القادم منها لتضرب العاصفة.   

إلا أن هناك مؤشرات على تغييرات جذرية في المشهد السياسي، والتي هي بعد مجرد مؤشرات إلى أن تظهر لنا حقيقتها، صدقها وأبعادها.

تتخذ الحكومة هذا الموسم الانتخابي إجراءات متشددة ضد الكثير من "الفسادات" السياسية المعتادة في المشهد، مثل إجراءاتها ضد الانتخابات الفرعية، والتي عادة ما تتنكر في مسميات عدة مثل تشاوريات أو "حفل عشاء"، وإجراءاتها ضد شراء الأصوات ونقلها لصالح مرشحين معينين، حيث تبدت جدية مكافحة الأخيرة تحديداً حين صدر مرسوم بتقنين التصويت بالبطاقة المدنية، مما يجبر الأفراد على التصويت حسب سكناهم المذكور في البطاقة وليس حسب تسجيلهم الانتخابي الذي كان سابقاً منفصلاً عن مكان السكن.

كما وصدر في الكويت مرسوم آخر يضيف عدداً من المناطق السكنية للدوائر الانتخابية مما يوسع دائرة الناخبين ويقوي العملية الانتخابية بجعلها أكثر شمولية. هذا وقد أقر مجلس الوزراء المرسومين وأمر بتفعيلهما مباشرة. 

بكل تأكيد لا تتغير المشاهد السياسية بمجرد صدور قوانين، فتنظيم العمل السياسي يحتاج لتغيير فكري، وتنظيف الممارسة الديمقراطية يحتاج إلى ترسيخ القناعة بهذا التغيير.

سيحتاج المشهد السياسي الكويتي إلى سنوات طويلة قبل أن يتخلص من أثر الأموال السياسية التي لطخت وجهه مطولاً، قبل أن يستوعب تماماً ويهضم الإشكالية الأخلاقية العميقة لممارسات سياسية مشوهة كالانتخابات الفرعية وشراء الأصوات واستخدام الأموال السياسية في مساندة مرشحين وفي تحييد آخرين.

لا شك أن المشهد السياسي الحالي لن يكون نظيفاً تماماً وفجأة بفعل التقنينات الجديدة، سيتحايل الناس لبيع وشراء الأصوات، سيرتبون لفرعيات وسينقلون أصواتاً، وإن بحذر أكبر ودرجات أقل، لن يختفي الفساد بصدور قانون، سيختفي بجدية تطبيقه وبتلازمه وتغيير أخلاقي يتم تجذيره عبر سنوات من التلقين الإعلامي والترويج الاجتماعي والنفسي.   

كما ويبدو أن هناك تغييراً جدياً في "الخارطة السياسية" في الكويت بمؤشر الأسماء التي ترشحت للانتخابات. بعض الأسماء جددت ترشحها مثلما هو متوقع لقوة مواقعها بين قواعدها الانتخابية ولوجود مشاريع، بعضها طيب والكثير منها غير ذلك، تود هذه الأسماء استكمالها، إلا أن هناك أسماءً قديمة انسحبت وجديدة ترشحت معلنةً انتهاء حقبةٍ وابتداء أخرى أو لربما مشيرة إلى تجديد حقبةٍ ماضيةٍ بأيديولوجيتها  وتوجهاتها وسياساتها.

من المؤكد أن هناك رموزاً سلبيةً كبرى اختفت حالياً من المشهد، وهذا مؤشر مريح ولو إلى حين، لربما يساعد اختفاء هذه الرموز على استقرار المشهد السياسي وعودة شيء من اللحمة الوطنية التي بددها وجود هؤلاء في بيت الأمة.   

وعلى عادة المشهد السياسي الكويتي، شاركت النساء في الترشح وبعدد لا بأس به، وصل لما يزيد عن 25 امرأة حسب آخر تقرير.

لا تبدو فرص النساء كبيرة سوى لربما بالنسبة لاسم أو اسمين منهن، إلا أن هناك عدداً من الحملات التشجيعية تديرها بعض الناشطات العاملات خلف الكواليس للدفع بالنساء، والرجال كذلك، للتصويت للمرشحات وللتأكيد، بالعموم، على ضرورة أن تكون قضايا المرأة أولويةً في تحديد الاختيار وتقييم المرشحين وخصوصاً فيما يتعلق بموضوع استحقاقات المرأة المواطنية وعلى رأسها تمريرها جنسيتها لأبنائها، وهو الحق المدني الأصيل الذي لا تزال المرأة الكويتية محرومة منه.   

وستبقى قضايا الحريات والقضايا الإنسانية، وعلى رأسها قضية عديمي الجنسية وقضية حقوق المرأة، هي المؤشرات الأهم على جدية وكفاءة المرشحين من حيث طرحهم لبرامج حلولية فاعلة وقابلة للتطبيق.

هذان الموضوعان الحقوقيان تحديداً سيشكلان، في رأيي، مقياساً لشجاعة الطرح ومؤشراً على مدى نقاء المرشحة أو المرشح من الأفكار العنصرية والتمييزية والرجعية. من لا يرى المرأة مواطنة مكتملة الأهلية، إنسانة مكتملة الاستحقاقات بلا قيد أو شرط أو تمييز، فهو لا يستحق أن تستأمنه الأمة، التي أكثر من نصفها من النساء، على مستقبلها وتشريعاتها وخططها، ومن لا يرى عديمي الجنسية كجزء لا يتجزء من المكون الكويتي الذي عاشوا فيه لما يزيد عن 60 سنة، من لا يستشعر فداحة الظلم الواقع في قضية انعدام الجنسية محلياً وإقليمياً وعالمياً، فهو لا يستحق أن يجلس على كرسي تشريعي، كرسي الدفاع عن الحقوق والذود عن الأمة.  

وأخيراً لابد من ذكر أن المشهد السياسي الكويتي دوماً ما يصحبه جانب هزلي كوميدي، أحياناً كوميدي أسود، ربما كمؤشر أولاً على قِدَم الممارسة الديمقراطية في الكويت نسبياً واعتيادها مما يبيح للناس التعامل معها بشكل نقدي ساخر أحياناً، وثانياً على اتساع رقعة العمل السياسي، ولو صورياً، لكل أنواع المشاركين من الناس، وثالثاً على الجرأة والاختلاف بين الكويتيين في التعامل مع "عرسهم الديمقراطي".

ففي أحد مراكز التسجيل الانتخابية ثارت زوبعة بعد أن اكتشف المنظمون أن أحد المتقدمين للترشح هو في الواقع ممثل ويشكل جزءاً من مشهد تمثيلي ساخر من المشهد السياسي، ولا تزال التداعيات القانونية لهذه التمثيلية سارية والتي نتمنى أن تنتهي على خير وألا تُحملها الجهات القانونية أكثر مما تحتمل.

هناك كذلك مرشحون كوميديون لطفاء، يخرجون بتصريحات مضحكة، سمجة، أو هزلية جاهلة تماماً بالمشهد السياسي، وهناك آخرون مختلفون، غريبو التعامل مع المشهد ومغتربون عن طبيعة العمل فيه. أحد المرشحين مثلاً أعلن أنه سيطالب "بتصويت الوافدين، وخاصة المصريين"، وآخر أعلن أنه لن يقدم أي مقابلات أو لقاءات ومن يرغب بمعرفة شيء عنه فعليه العودة لمواقع التواصل الاجتماعي الخاصة به.  

أحياناً يبدو مشهدنا السياسي مرسوماً بدقة وأحياناً أخرى يبدو مليئاً بالمفاجآت، بما قد يبدو لنا مفاجآت، غير متوقعة. تعمل بعض الأسماء المرشحة، تماماً كما يعمل اختفاء أخرى غيرها، كمؤشرات على الزمن الجديد والسياسات المرتقبة.

المرأة لا تزال الرقم الأصعب، سواء من حيث مشاركتها السياسية أو من حيث طبيعة نوعية قضاياها التي تحتاج لمعالجة جذرية جريئة وعميقة. إلا أن العموم الكويتي، كما يبدو، سعيد بانتهاء حقبة المجلس السابق الذي شكلت بعض أطرافه، كما قيادته، عوامل توتر كبيرة أدت إلى حدوث انقسامات واضحة في المجتمع الكويتي.

بل يمكن القول إن أداء المجلس السابق كان هو الأسوأ فيما يخص القضايا الإنسانية، خاصة قضية عديمي الجنسية، وقضايا الحريات، وخاصة حرية الرأي والتعبير، والتي نتمنى أن تكون على رأس أولويات المجلس الجديد. التحديات القادمة كبيرة والتوقعات الشعبية بالتغيير هائلة والصبر الكويتي إلى نفاد، فهل سنحقق التغيير المرجو؟ 

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.