الجيش الأوكراني يشن هجوما مضادا واسع النطاق. أرشيفية
انتصارات متتالية للجيش الأوكراني مؤخرا

 السؤال الذي يطرح اليوم في الحرب الأوكرانية هو ليس ما إذا كان الجيش الروسي قادر على تغيير مسار الحرب أو تحقيق إنجاز عسكري ما، الواقع أنه لن يتمكن من تحقيق شيء يذكر بعد أن فشل في انجاز أهدافه الأساسية في الأيام والأسابيع الأولى من الحرب، والتي تحولت، ويا للمفاجأة، لصالح الأوكرانيين، ولكن السؤال هو ما الذي سوف يفعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إزاء الهزيمة العسكرية التي باتت تلوح في الأفق وما هي الخيارات التي يملكها؟

بعض المحللين العسكريين يخشون من أن يلجأ بوتين إلى خيارات كارثية من قبيل استخدام أسلحة الدمار الشامل وخاصة ضد المدن الأوكرانية المأهولة بالسكان، وهناك من يخشى تحديدا من أن يصب جام غضبه على البنية التحتية من مساكن ومنشآت أوكرانية وذلك انتقاما للهزائم التي لحقت بقواته.

الواقع أن هذا الاحتمال يظل قائما، ليس فقط بسبب الرغبة في الانتقام ولكن أيضا بسبب انسداد الأفق أمام الجيش الروسي لتحقيق أي تقدم رغم مرور أكثر من ستة أشهر على بدء الحرب، وربما لرفع الحالة المعنوية لجنوده والتي تشهد تراجعا ملحوظا.

إن ما حدث ويحدث حتى الآن هو عملية إذلال كبيرة تتعرض لها القوات الروسية. فهي راهنت على السيطرة على المدن الأوكرانية الرئيسية بما في ذلك العاصمة كييف خلال أيام أو أسابيع قليلة من الحرب، وكانت خططها هي عزل الحكومة الأوكرانية وتنصيب أخرى موالية لموسكو، واعتقال أو قتل المعارضين للهيمنة الروسية.

لم تفشل موسكو في تحقيق أي من هذه الأهداف فحسب، ولكنها لم تصمد أيضا أمام مقاومة الأوكرانيين في هذه المدن. واليوم تشن القوات الأوكرانية هجمات مضادة مكنتها حتى الآن من تحرير آلاف الكيلومترات ومطاردة الجنود الروس حتى الحدود الدولية. 

وفي حال استمر هذا الزخم العسكري الأوكراني فلن يكون مستبعدا أن تستعيد كييف السيطرة على مناطق مهمة من الإقليمين الانفصاليين لوغانسك ودونيتسك، اللتين أعلن الرئيس الروسي أنهما هدف حملته العسكرية لحفظ ماء الوجه. 

بعض المحللين العسكريين يرون أن بوتين ربما يضطر إلى تغيير التسمية من العملية العسكرية إلى الحرب، كي يتمكن من تفعيل التجنيد الالزامي وزج أعداد كبيرة من الروس في ساحات القتال. 

ولكن هذا الخيار الذي استبعد حتى الآن له ثمن سياسي كبير، ليس فقط بسبب الخسائر الكبيرة المتوقعة في الأرواح، ولكن أيضا لأنه سوف يعني أن جميع الروس سيكونون معنيين بهذه الحرب بشكل أو بآخر، الأمر الذي قد يولد نقمة شعبية ضد الرئيس الروسي.  

يبقى العمل التفاوضي أو السياسي هو الأقل كلفة لإنهاء هذه الحرب، ولكنه مرهون بميزان القوى على الأرض. وفي الأسابيع الأولى من الحرب كان بإمكان القيادة الروسية أن تجري مفاوضات بشأن وضع قواتها في بعض المناطق الأوكرانية التي سيطرت عليها في ذلك الوقت. 

لكن من الواضح أن التطورات الميدانية الأخيرة جعلت من الصعب على الأوكرانيين قبول فكرة تخليهم عن منطقتي لوغانسك ودونيتسك ليتم إلحاقهما بروسيا. فالأرجح أن هذه التطورات سوف تدفع القيادة الأوكرانية لتصليب موقفها التفاوضي، وتقوية وضعها العسكري وربما طموحها أيضا في استعادة جميع المناطق التي خسرتها خلال هذه الحرب وما سبقها بما في ذلك شبه جزيرة القرم.

ويبدو أن الدول الغربية تشاطر كييف هذه الأهداف حتى النهاية، بما في ذلك استنزاف روسيا والقضاء على أحلام بوتين وربما مستقبله السياسي أيضا.

ويمكن القول من دون مبالغة أن جزءا من هذه الأهداف قد تحقق بصورة مذهلة. فقد قضت الحرب الأوكرانية على العديد من الإنجازات التي تفاخر الرئيس الروسي بتحقيقها في السنوات الماضية.

فقد أضرت بشدة بموقع روسيا العسكري حيث كشفت عن ضعف قوته وتخبط جيشه وتخلف أسلحته.
كما أضرت بموقع روسيا الاستراتيجي مع انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو وتبني معظم دول الاتحاد الأوروبي عقيدة سياسية وعسكرية تعتبر التهديد الروسي وجوديا بالنسبة لها. 

أما اقتصاديا فمن المتوقع أن تحدث العقوبات الغربية أضرارا بنيوية يصعب إصلاحها في الاقتصاد الروسي. وتعتبر خسارة السوق الأوروبية والتعامل التجاري مع أوروبا على المدى المتوسط والبعيد مدمرا لموسكو. 

أما دوليا فقد انضمت روسيا بجدارة إلى الدول المارقة المعروفة مثل كوريا الشمالية وإيران وغيرها. 
أمر واحد يمكنه أن يعكس مجرى الأحداث الحالية وهو تمرد الروس على بوتين وعزله، وهو أمر ليس من السهل حدوثه، ولكنه غير مستبعد بالنظر إلى حجم الأضرار التي ألحقها ببلده وشعبه.  

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.