الرياض
"السعودية تعتبر في حالة تحول، والبعض يعتبر أنها في أوائل مرحلة التنوير". الصورة للعاصمة الرياض.

كتب الصحفي البريطاني الشهير، ريتشارد كويست، مقالا في صفحة "السفر" على موقع شبكة "سي.أن.أن" بعنوان "كيف تبدو زيارة السعودية الآن"، عن زيارته الأخيرة للمملكة ورؤيته بنفسه التغييرات الكبيرة التي حدثت مؤخرا في المملكة. وقد شدد على أنه من السخف التحدث عن هذه التغييرات بدون الإشادة بالرجل الذي يقف وراء هذه التغييرات وهو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، المعروف باسم MBS.  فهو مهندس الإصلاحات في المملكة، وقام بالتحديث بسرعة هائلة في عدة مجالات، الاقتصادية والاجتماعية، وخاصة في تمكين المرأة. وبالرغم من الانتقادات الشديدة التي يتعرض لها ولي العهد في وسائل الإعلام الغربية في مجال حقوق الإنسان، إلا أنه لابد من التنويه أنه منح حريات عديدة لملايين السعوديين وخاصة فئة الشباب، "وهذا ما شاهدته أمام عيني في البوليفارد في الرياض" على حد تعبير كويست.   

وأعرب الصحفي البريطاني عن تجربته أثناء الزيارة ومقابلته لرجاء الصانع التي أخذته في جولة بسيارتها في الرياض. الصانع طبيبة أسنان سعودية ومؤلفة كتاب "بنات الرياض"، وهي قصة خيالية لأربع نساء يحكين عن حياتهن العاطفية المعقدة، وبالرغم أنها ليست رواية رومانسية أو جنسية، لكن عندما نشر الكتاب في عام 2005، أثار ضجة واسعة في جميع أنحاء السعودية آنذاك، أما الآن الوضع اختلف والذي كان يُعتبر أمراً عظيماً في السابق أصبح الآن عادياً. فهذه التغييرات والإصلاحات تعتبر مثل "المارد الذي خرج من عنق الزجاجة ولن يعود أبداً"، فالصانع، كما ذكر ريتشارد كويست، ممتنة لهذه التغييرات وتطمح للمزيد.  

إن أكثر ما لفت انتباه الصحفي البريطاني هو تلك التناقضات في السعودية أو بالأصح كيفية التوازن بين دولة غالبية سكانها من الشباب التي تقل أعمارهم عن 30 عاماً، يريدون الاستمتاع بحياتهم وتذوق الفن والموسيقى وفي نفس الوقت يسعى الكثير من الشعب الالتزام بالتقاليد والمحافظة على الدين. وختم كويست مقاله بالقول إن هذه التناقضات وهذا التوازن هو ما يجعل هذا البلد ساحراً للغاية.    

ورغم أن الصحفي البريطاني تطرق لمواضيع مهمة مثل التغييرات على المستوى الاجتماعي والاقتصادي بالتخطيط لمرحلة ما بعد النفط، إلا أنه لم يتطرق إلى أهم تغيير وهو تحديث هيئة كبار العلماء لما لها من أثر كبير في داخل المملكة وخارجها، من منطلق استحقاق المملكة لخدمة الحرمين الشريفين وما تشكله بالنسبة للهوية العربية والإسلامية، وبالتالي تحديث هذه الهيئة سيكون له وقع كبير على المنطقة. وبما أن السعودية تعيش الآن عصر التجديد بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير المجدد محمد بن سلمان، فإن تولي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، منصب أمين عام رابطة العالم الإسلامي ورئاسة هيئة علماء المسلمين، ليس أمراً عادياً ومجرد شكليات وبروتوكولات تقليدية بقدر ما هي مرحلة متجددة لرابطة العالم الإسلامي تخرج بها إلى جولة تأسيسية للتعايش والسلم وترسيخ رؤية الإسلام عملياً في التعايش الإنساني ومعبر الحضارات لنقل رؤية 2030 نحو العالمية من خلال الرابطة.  

فاختيار الشيخ محمد العيسى لهذا المنصب ينم عن أن هناك عزيمة جدية لتأسيس مجتمعاتٍ أكثر تعايشاً ووئاماً، فهو حاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الدراسات القضائيّة المقارنة وعلى دراسات في القانون العام -القانون الدستوري، وبعد توليه المنصب صدرت أول رخصة محاماة للمرأة السعودية، وقد منحته لجنة جائزة الاعتدال بالمملكة العربية السعودية جائزتها نظير جهوده في نشر الاعتدال، كما حاز وسام الدولة الأكبر من رئيس جمهورية السنغال تقديراً لجهوده العالمية في نشر قيم الاعتدال الديني وتعزيز التعاون بين أتباع الثقافات والأديان، ولقاء مبادراته وبرامجه الإنسانية حول العالم. وفي ملتقى "القيم المشتركة بين أتباع الأديان" الذي كان في مايو 2022 والذي استضافته رابطة العالم الإسلامي في الرياض، ذكر أنه لم يعد في إمكان أحدٍ اليوم أن يتجاهل مستوى تأثير الاعتدال الدينيّ على التعايُش المجتمعي والسِّلم العالمي، لافتاً إلى أن التاريخ الإنساني يشهد بأن أهمَّ أحداثه كان وراءها محفِّزاتٌ أو شِعَاراتٌ ذاتُ أهدافٍ دِينيَّة، لكنها خرجت عن منطقة الاعتدال فصار ما صار.  

كما أكد الدكتور العيسى في كلمته على "الدبلوماسية الدينية"، مؤكداً أنها في إطار وعيها الروحي تصنع الفرق في الزمن الصعب، منوهاً إلى أن القوة التي تتمتع بها الدبلوماسية الدينية "المستنيرة" هي القوة الناعمة التي تخاطب العقول والقلوب معاً، بنيات صادقة. ومن ثم أعلن المشاركون في الملتقى، عن إطلاق مُنتدى عالمي باسم: "منتدى الدبلوماسية الدينية لبناء الجسور"؛ مِنْ مُنطلَق مركزية تأثير الأديان في المجتمعات الإنسانية، وإصدار موسوعة عالمية باسم: "موسوعة القيم الإنسانية المشتركة". كما دعوا المؤسسات الدينية حول العالم إلى تشجيع الخطاب المعتدل ونبذ الخطاب المتطرف الذي يثير الكراهية، مع إدانة كافة الممارسات المتطرفة والعنيفة والإرهابية في حق أتباع الأديان، والدعوة لتجريم النيل من رموزها ومقدساتها، ودعم المبادرات الجادة المناهضة لها. 

ومن أهم ما يشجع عليه الشيخ الدكتور محمد العيسى أيضاً هو ترسيخ الهوية الوطنية والتشديد على أهميتها وهذا ما وضحه بلقاء على قناة الـ م بي سي في اليوم الوطني السعودي، وقد ذكر أن "الفرح بالوطن يعني الفرح بالكيان والذات فأنت عندما تفرح بالوطن وتخلص له فأنت في الواقع تفرح بنفسك وتخلص لنفسك لأنك الوطن والوطن أنت وجلال وجمال هذا الفرح يكمن في تعزيز اللحمة الوطنية تحت قيادتها الرشيدة". إن التأكيد على أهمية الوطن والمواطنة هو عكس ما يدعو له دعاة الإسلام السياسي كما ورد على لسان الإخواني سيد قطب والتي نصها "ما الوطن إلا حفنة من تراب عفن"، فالمقصود هو رفض فكرة الدولة الوطنية بمفهومها العصري الحديث، لصالح فكرة ضبابية غائمة اسمها "الخلافة" وهي فكرة ترفض كل ما يختلف عنهم وتختصر الدين والخلق في اجتهاداتهم فقط مما ينشر الكراهية والعنف وصراع الحضارات.   

ومع كل ما ورد ذكره، فإن السعودية تعتبر في حالة تحول، والبعض يعتبر أنها في أوائل مرحلة التنوير لكنه من المبكر أن بلداً ابتدأ هذه التغييرات الجذرية أن يحكم عليه بالنتائج النهائية، فمرحلة التغيير ما زالت في بداياتها والمشوار ما زال طويلاً، لكن من المؤكد أن عقارب الساعة لن ترجع إلى الوراء والمارد لن يعود أبداً في عنق الزجاجة.     

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.