احتفالات بالهالوين في السعودية أثارت الجدل
احتفالات بالهالوين في السعودية أثارت الجدل

بالأمس كنت أتابع الإنستغرام ورأيت بعض الصور لاحتفالات الهالوين في السعودية لدي أحد الأصدقاء. في البداية لم أكن متأكدا إذا كانت الحفلة في السعودية أم في أميركا، حيث يعيش صديقي بين واشنطن والرياض، فأرسلت له رسالة لأتأكد، فقال لي: الحفلة بالفعل في السعودية!

ربما تكون لحظة عابرة ولكنها كاشفة عن حجم التغير السريع والملحوظ الذي يحدث في المجتمع السعودي في السنوات الأخيرة. فمن المفارقات أني عندما بدأت في الكتابة على منصة الحرة، كتبت عن قرار القيادة السعودية بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، في نهاية عام 2017، أي منذ خمسة أعوام فقط. 

جانب من الاحتفال بالهالوين في الرياض

خمسة أعوام شهدت، وتشهد، تحولا سريعا وحاسما نحو مجتمع أكثر انفتاحا على العالم، وكأن المجتمع السعودي يسير في اتجاه معاكس لما اعتدنا أن نراه في المملكة خلال العقود الماضية. تحول في اتجاه رؤية 2030 والذي يقدّم السعودية كقوة اقتصادية ذات اقتصاد متنوع لا يعتمد فقط على النفط. 

هذا التحول هو ما أريد أن أناقشه اليوم، فالقضية هنا ليست هي: هل الإسلام الوهابي الذي رأيناه لعقود هو الذي يعبّر عن الإسلام الصحيح أم الإسلام الأكثر انفتاحا الذي نراه اليوم؟ بل أن القضية هي أن القيادة السعودية أدركت ببساطة أن عصر النفط لن يدوم إلى الأبد، وأن هناك ضرورة ملحة للاندماج في الاقتصاد العالمي بصورة أقوى وأكثر فعالية. فالنفط، الذي طالما وفّر عوائد هائلة دون الحاجة للاعتماد على النمو الطبيعي للاقتصاد، سيتحول إلى ماض في المستقبل القريب.  

وهنا، كان لابد من تغيير الثقافة المتشددة السائدة وإلا فإنه من المستحيل أن تنجح مثلا مشروعات السياحة العملاقة التي تقوم بها السعودية، مثل المنتجعات السياحية على البحر الأحمر والتي تتكلف مئات المليارات من الدولارات. فكيف يمكن أن نطلب من ملايين البشر الذين يعيشون في ثقافات مختلفة أن يقدموا إلى بلادنا إلا إذا شعروا بجو من الانفتاح والتقبل لثقافاتهم وعاداتهم المختلفة؟  

ومن المفارقات المحزنة التي تنتشر على صورة "ميمز" على مواقع التواصل الاجتماعي الآن، هو كيف تتحول السعودية بعيدا عن الوهابية بعد أن صدّرت هذه الأفكار لمصر.  

ففي ظل الأزمة الاقتصادية الصعبة التي تعيشها مصر، والتي ربما ليس المجال هنا للخوض في أسبابها بالتفصيل. وفي ظل النقص الشديد في الدولار والذي بدوره يؤثر على أسعار كل السلع الأساسية، يتبادر إلى الذهن سؤال بسيط ألا وهو: كيف لبلد لديه كل هذا الكم من الآثار والمتاحف والمعابد والمقابر أن يعاني من نقص في الدولار؟ ولماذا لا تدر السياحة دخلا أفضل للمساهمة في سد هذا العجز؟  

الإجابة أدركتها بشكل مختلف بعيدا عن الأرقام، كمصري يعيش في الخارج. حيث سمعت أكثر من قصة عن سائحات تعرضن للمضايقات أثناء تواجدهن في مصر. فأنا على الأقل، سمعت ثلاث قصص مختلفة من ثلاث نساء تحدثن عن التحرش والباعة المزعجين جدا، وعن قرارهن بعدم تكرار التجربة رغم انبهارهن بالآثار وبالجو وخصوصا في الشتاء. 

فمهما قامت الدولة بأنشطة لتنشيط وتشجيع السياحة، لا يمكن أن تتحكم في كيفية تعامل الناس مع السائحين، ولا يمكن التحكم في نظرة الناس للسائحة التي تأتي إلينا من أميركا أو كندا، والتي يراها البعض وكأنها "مستباحة"، لأنها تعيش في ثقافة متحررة مختلفة عن الثقافة السائدة في بلادنا. هذه النظرة بشكل موضوعي لا يمكنها فصلها عن خطاب بعض الأصوات المتطرفة التي لا ترى في المرأة إلا أداة للغواية ومصدر للفتن.   

وهذا يأخذنا مرة أخرى لما يحدث في السعودية. فنجاح وازدهار الاقتصاد اليوم يعتمد في أحد أركانه على القدرة على الاندماج. فلا مكان اليوم لاقتصاد ناجح مزدهر دون ثقافة تدعو للانفتاح على الآخر واحترامه، ثقافة لا ترى فيه عدوا ولا شيطانا، بل ترى فيه مختلفا ينبغي احترامه.  

وفي حين يعتقد البعض أن الحديث عن قضية التطرف الديني هو حديث نخبوي مكانه قاعات الندوات الثقافية وأن لا علاقة له بالحياة اليومية للمواطن العادي. فإن الحقيقة هي أن التصدي للتطرف له علاقة مباشرة جدا بازدهار الاقتصاد.  

فالنمو الاقتصادي في عالم اليوم لا يتحقق مثلا في مجتمع ينظر للمرأة باعتبارها صاحبة إمكانيات أقل وغير قادرة على تحقيق الإنجازات في العمل. فلا يمكن لمجتمع يمارس التمييز ضد المرأة في أماكن العمل ولا يوفر لها طرقا آمنة ومناخ عمل آمن أن يحقق نموا اقتصاديا فعالا. وهنا لا أتحدث من منطلق حقوقي وإنما من منطلق اقتصادي، يدرك أن تعطيل قدرات نصف المجتمع، إما بالتمييز ضده في التعليم والتوظيف أو بعدم توفير مناخ آمن له، يؤثر بشكل سلبي على الاقتصاد.  

من ناحية أخرى من المهم انتشار مناخ التسامح الديني الحقيقي بعيدا عن الشعارات المستهلكة والذي يتعامل مع المواطن دون تمييز دون النظر إلى خانة الدين في بطاقته الشخصية والتي لا أجد تفسيرا منطقيا لوجودها، فالدين والمعتقد أمر شخصي بحت، انتشار هذا المناخ هو ضرورة أيضا لازدهار الاقتصاد.

فواحدة من أسباب قوة الولايات المتحدة الاقتصادية هي هجرة كثير من العقول المبدعة لها. وعندما تقرأ عن قصص كثيرين منهم، تجد أنهم رحلوا هم أو آباؤهم أو أجدادهم عن بلادهم بسبب التضييق عليهم والتمييز ضدهم، لأنهم ينتمون لدين أو طائفة تتعرض للتمييز، على عكس المناخ في بلد مثل الولايات المتحدة والتي تضع قوانين تعاقب من يمارس التمييز على أساس الدين.  

النجاح في اقتصاد القرن الواحد والعشرين أصبح مرتبطا بشكل وثيق بقيم الانفتاح وتقبل الآخر وليس فقط بتوافر الموارد من نفط أو غاز أو معادن. فوجود ثقافة منفتحة ترفض التمييز بناء على الجنس أو الدين أو اللون وتستهجنه، ووجود ترسانة قوانين تحمي الأفراد من التمييز تطلق قدراتهم. فالاقتصاد الحر عموما ينجح كلما قلت القيود والعوائق وأطلقت القدرات والإمكانيات والعكس صحيح.   

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.