Sudanese women chant slogans protesting security forces’ use of violence against anti-coup protesters in the city of Omdurman,…
سودانيات يتظاهرن في الخرطون ضد سيطرة الجيش على السلطة

من المقولات التي يرددها كثير من المثقفين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أن هناك مُدنا أو حواضر تتركّز فيها الحياة الثقافية والسياسية، ومنها يأتي المفكّرون أو السياسيون الذين يقودون كامل الإقليم، إما نحو أنظمة الحكم الديكتاتوري، أو نحو التشدّد الديني، أو نحو الإنفتاح السياسي أو الثقافي، ويتّفق أغلبهم على أن القاهرة هي أهم هذه المراكز مع أنهم في بعض الأحيان وخلال فترات زمنية محدّدة كانوا يتحدثون عن دور مهم لبغداد أو بيروت أو دمشق، ولكن متابعة أدق للحياة السياسية في هذه المنطقة تُظهر وجود دور متميز ومتفرّد وقيادي للسودان. 

ففي منتصف القرن الماضي عندما كانت الحركات والتنظيمات اليسارية تلعب الدور الرئيسي في الحياة السياسية في الكثير من دول العالم برز الحزب الشيوعي السوداني، ليس لأنه كان أحد أكبر الأحزاب الشيوعيه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فحسب وليس لأنه كان قريباً من الوصول إلى السلطة، بل لأن هذا الحزب كان يحتفظ بهامش من الاستقلالية عن موسكو بخلاف أغلب الأحزاب الشيوعية، ولأنه حاول في ذلك الوقت إيجاد نسخة من الحركة الشيوعية تُراعي الخصوصية الثقافية والطبيعة القبلية والريفية للمجتمعات المحلية، حتى أصبح مصدر إلهام للكثير من الأحزاب اليسارية في هذه المنطقة، وربّما لهذه الأسباب حافظَ هذا الحزب على وجوده حتى اليوم رغم إنقراض هذا النوع من الأحزاب بعد فشل وإنهيار الأنظمة التي قامت على الأفكار التي كانت تدعو إليها. 

وكما كان للسودان نموذجه المُختلف من الأحزاب اليسارية، كذلك كان له نموذجه الخاص المتفرّد من الأحزاب الإسلامية، وتجلّى ذلك في عدد من الأحزاب والجبهات التي نشأت في السودان والتي كان أغلبها فروع من جماعة الإخوان المسلمين، وكان الأب الروحي لكثير منها شخصية إشكالية هي حسن التُرابي، ورغم اختلاف كثيرين حول تقييم الأدوار السياسية المتقلّبة والمتناقضة التي لعبها الترابي في تاريخ السودان الحديث، ولكنّه فتح الباب من خلال موقعه كمرجعية إسلامية كبيرة أمام حركة تجديد ديني كانت على درجة من الجرأة إلى حد أن تيارا رئيسيا وتقليديا من أحزاب الإسلام السياسي اعتبره مارقا وزنديقا تجب محاكمته لعدة إتهامات منها أنه: "أباح الارتداد عن الإسلام عندما قال نحن أحرار في أن نكون مسلمين ونصبح غير مسلمين وأنكر وجود حد الردّة، ولأنه طعن في السنّة عندما قال إن اليهود والنصارى مؤمنين وليسوا كفارا، ولأنه أباح زواج المسلمة من مسيحي أو يهودي، كما أباح إمامة المرأة للرجال في الصلاة وكذلك أباح صلاة النساء والرجال متجاورين، كما قال إن حدّ الخمر لا يصبح قانوناً إلا إذا تحوّل إلى عدوان". 

وكما كان الترابي شخصا غير تقليدي في المواضيع الدينية كان كذلك في مواقفه السياسية، فقد تفهّم مطالب جنوب السودان بالانفصال لأنه كان يرى أن الشمال ظلمَ الجنوب، وأن حق تقرير المصير لا يمكن إنكاره، وأن محاولة الشمال تعريب الجنوب قسريا كانت عملا عنصريا، وكذلك كان لا يمانع أن يتولّى رئاسة السودان إمرأة أو مسيحي طالما كان عادلا ونزيهاً، ورغم أن حركات الإسلام السياسي تعيش حالياً أواخر أيامها بعد فشل آخر نماذج الحكم التي قدّمتها في إيران وتركيا، ولكن أفكار حسن الترابي التجديدية مازالت حية بل أصبحت قضايا مطروحة للنقاش بشكل واسع في مختلف المجتمعات الإسلامية. 

وتابع السودان دوره البارز والمميّز في السنوات الأخيرة، ففي نهاية عام 2018 أعاد الشعب السوداني إيقاد شعلة ما سُمي الربيع العربي بعد أن خمدت نتيجة فشل الموجة الأولى من هذا الربيع في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، ولذلك عندما انطلقت احتجاجات السودان ضد نظام عمر البشير والتي تطوّرت خلال بضعة أشهر إلى ثورة شاملة وتوّجت بإسقاط هذا النظام عاد الأمل إلى الكثير من شعوب المنطقة، وكان من أسباب نجاح الثورة في السودان أن شباب هذه الثورة لم يسمحوا لأي قوة بتصدّر المشهد السياسي سواء كانت إسلامية أو يسارية أو ليبرالية بل بقي الحراك الشعبي تحت يافطة عريضة جامعة هي قوى الحرية والتغيير التي تسعى إلى بناء دولة مدنيّة ديمقراطية حديثة. 

ولعلّ من أسباب التوجهات المدنية والعصرية لهذه الثورة أنها قامت بالأساس ضدّ حكم إسلامي، ولذلك لعبت النساء دوراً بارزاً واستثنائياً فيها كرد فعل على عقود طويلة من التهميش والاضطهاد وصَلت إلى حد اعتبار البنطال ثوب "فاضح" يجب معاقبة المرأة التي ترتديه، وقالت بعض التقديرات أن 70 في المئة من المشاركين في الثورة على حكم البشير كنّ من النساء بما يشبه ما يحدث في إيران حالياً، ولذلك تم تعيين أربع نساء في أول حكومة بعد الثورة كان منهم وزيرة الخارجية. 

وتقول المؤشرات اليوم إن السودان سيتابع دوره المُلهم والمتميز والقيادي من خلال إصراره على إسقاط الحكم العسكري الذي انقلب على شركائه المدنيين في أكتوبر من العام الماضي، لأنه منذ ذلك الوقت لم تتوقف احتجاجات السودانيين أبداً رغم ضخامة التضحيات التي قدّموها ورغم الدعم الكبير الذي تلقّاه العسكريون السودانيون من بعض الدول الإقليمية ومن روسيا والصين، ولعلّ من أسباب صمود السودانيين إصرار القوى المدنيّة على التوحّد في خندق واحد رغم التباين بين أجنحتهم المختلفة، وكذلك نتيجة فشل هذا الحكم في حل أي من المشاكل التي يُعاني منها السودان إن كان من الناحية المعيشية التي تدهورت نتيجة توقف المشاريع والتجارة وتفاقم البطالة وزيادة الفقر حتى طال 80 في المئة من السكان حسب بعض الخبراء، وكذلك من الناحية الأمنية حيث عادت الاشتباكات القبلية في بعض المناطق وأوقعت أكثر من 150 قتيلاً قبل بضعة أيام. 

وانعكس صُمود الشعب السوداني وإصراره على رفض الحكم العسكري في إيجاد موقف دولي متعاطف ومؤيد لمطالب الشعب، كان أبرزها الموقف الأميركي الذي عبّر عنه وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، قبل أيام بالقول "إن الولايات المتحدة تواصل رفض الحكم العسكري وتقف إلى جانب الشعب السوداني في مطالبه بالحرية والسلام، وإن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام كافّة الوسائل المُتاحة ضد أولئك الذين يعملون على عرقلة التحول الديمقراطي في السودان، وإن الحكومة المدنية هي المفتاح لاستئناف المساعدات الدولية". 

ونجاح السودانيين في التخلّص من الحكم العسكري سيعطي دفعة للحراك الشعبي في تونس الذي يعمل على مقاومة محاولة قيس سعيد للانفراد بالسلطة، كما أنه سيفضح الأكاذيب التي يروّج لها إعلام أنظمة الحكم العسكري مثل أن مجتمعات الشرق الأوسط غير جاهزة بعد للتحوّل الديمقراطي لأن الديمقراطية ثقافة بحاجة لعدة أجيال حتى تصبح المجتمعات جاهزة لها من دون أن يشرحوا لماذا هناك ديمقراطية في أندونيسيا أو جنوب افريقيا وغيرهما من دول العالم الثالث، ورغم الفشل الكبير الذي انتهت إليه أنظمة الحكم العسكري في شمال إفريقيا على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي كان من مظاهرها أزمات معيشية لم يسبق لها مثيل، بما يدل على أن محاولات التهرّب من الديمقراطية لن يُكتب لها النجاح ولن يترتّب عليها سوى استمرار معاناة الشعوب. 

ولذلك عند مقارنة ما تشهده الخرطوم حالياً من حراك سياسي وحيوية ثقافية مع وضع القاهرة التي انعدمت فيها أبسط مظاهر الحياة السياسية والتي أصبحت متزمتّة اجتماعياً ودينيّاً بحيث ينتظر قسم كبير من سكانها فتاوى رجال الدين ليعرف كيف يتعامل مع أبسط أموره اليومية، أو مع بغداد وبيروت ودمشق التي تعيش أجواء ثارات وصراعات طائفية عمرها قرون، تبدو الخرطوم أكثر وعياً بما لا يُقاس، بل تبدو كمركز إشعاع فكري وسياسي لأن انتصار قوى الثورة فيها قد يشكل بداية تحوّل سياسي سينعكس عاجلاً أو آجلاً على بقية دول الإقليم. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.