احتجاجات إيران
النساء يقفن في الصفوف الأولى في الاحتجاجات ضد النظام الإيراني

يذكرنا الجزء الخامس من مسلسل The Handmaid’s Tale بالبداية المرعبة لهذه الدستوبيا القاتمة القابلة جداً للتحقق، حيث تقودنا أحداث هذا الجزء للانتباه إلى مراكز القوى، إلى أن من صنع هذا المجتمع العنيف الشمولي القمعي هم رؤوس علاقاتية ومالية مدببة لا يزال معظمهم، بعد مرور سنوات على تشكيل جلياد، يجلسون بثبات على مقاعدهم، لا يزالون يديرون هذه المنظومة الرهيبة بقبضة حديدية ونفوس سيكوباتية مريضة، ولا يزال أحد أهم هذه الرؤوس هي امرأة، امرأة ساهمت في تحفيز الثورة وفي تشكيل مجتمعها الجديد الذي يستدير بكل شوفينيته اللاحقة ليعذبها ويقهرها وصولاً إلى أن يلفظها تقريباً خارجه، والغريب، أنها لا تزال، إلى حد منتصف الموسم وبعد معاناتها فيه ثم طردها منه، تترجى هي هذا المجتمع وتعمل حثيثاً، كما تعمل كل النساء المؤمنات بقضاياهن، من أجله.

لقد كانت هي امرأة، شخصية سيرينا، التي قادت الثورة بيد من حديد، حتى أن الموسم الأول من المسلسل يبين كيف أن شريكها، لاحقاً زوجها الكوماندور ووترفورد، يلين ويضعف أحياناً أمام الأفعال العنيفة الشائنة التي تطلبتها الثورة، وكيف أن سيرينا كانت هي الأقوى، هي التي احتقرته حين ضعف ودفعته دفعاً حين كان يقف عند أعتاب التنفيذ متردداً. لقد كانت هذه المرأة أحد أهم مراكز القوى التي صنعت مجتمع جلياد، هذا المجتمع الذي التف عليها ليبتلعها لاحقاً كما يبتلع الثعبان الفأر حياً. آمنت سيرينا وعملت حثيثاً على بناء مجتمع جلياد المتطرف في تدينه والذي، حاله حال أي مجتمع يغرق في التدين بأي دين كان، التف مباشرة على النساء ليقمعن ويروضهن ويحجر على كل تحركاتهن ويحولهن إلى أدوات جنس وإنجاب، حيث هن في جلياد إما زوجات للقياديين أو إماء مملوكات لهم، يُغتصبن من قبل هؤلاء الرجال بشكل مستمر ومنتظم لتحقيق الهدف الأسمى لجلياد وهو إنجاب الأطفال.

في منتصف الموسم الخامس، يقول مجلس جلياد الأعلى لسيلينا أن مجتمعهم غير مؤهل وأن بنيته التحتية غير معدة للتعامل مع مثيلاتها من "النساء الخاصات." هي امرأة قوية وذكية ومختلفة، لا مكان واضح لها أو موقع يتحملها في جلياد المبنية على فكرة استعباد النساء، على فكرة وضعهن في قالب من اثنين، قالب الزوجة التابعة أو قالب الجارية المملوكة، والذين كلاهما لا يتحملانها. وعليه يتم إرسال سيلينا لكندا لتعمل سفيرة هناك، تروج لجلياد كدولة مدنية وتخدمها دبلوماسياً ولكن عن بعد، دون أن تعيش على أرضها غير القادرة على تحمل وطأة قوتها "العقلية الذكورية" وضعفها "الجسدي الأنوثي." سيلينا تحولت إلى كائن مختلف غريب، كائن بين الذكر والأنثى، كائن يشكل معضلة لجلياد وفي ذات الوقت أحد أهم ثرواتها. ألا تقترب هذه الصور المرعبة لجلياد من حيواتنا البشرية الحقيقية؟

تقول شيرين عبادي المحامية الإيرانية الحائزة على جائزة نوبل للسلام ومؤلفة كتاب Iran Awakening إن الثورة الإيرانية التي عملت هي بإخلاص من أجل إنجاحها والتي كانت هي، ضمن الحركات الليبرالية واليسارية في إيران، من أقوى المساندين لها، قد انتهت إلى أن أكلتها ولفظتها عظاماً هشة. تقول عبادي إنها شعرت بالتغيير ثاني يوم من استتباب الأمر للثورة ولقائدها آن ذاك، الخميني، وأنها استشعرت النفور والتحييد في عملها وفي الشارع العام بعد أيام معدودة من انتظام الحكومة الجديدة. خسرت عبادي وظيفتها كقاضية فور جلوس الحكومة الدينية على مقاعد الحكم الإيراني، حيث تتذكر أنه تم استدعاءها بعد أيام لمقابلة أحد المسؤولين الكبار لينبهها أحد أتباعه بضرورة تغطية شعرها احتراماً لمقامه. تقول عبادي في كتابها ما معناه: إننا كنا نتكلم عن الثورة والسياسة والمستقبل، وهذا الرجل أمامي يتكلم عن الشّعْر، فعلياً يتكلم عن الشّعْر. 

ورغم أن المقارنة غير عادلة والناتج مختلف تماماً، حيث يقترب تكوين مجتمع جلياد من تكوين المجتمع الأفغاني على سبيل المثال أكثر بكثير من الإيراني، وحيث شيرين عبادي هي شخصية حقوقية حاصلة على النوبل للسلام بسبب جهودها اللاحقة الحثيثة والخطرة لمساعدة ضحايا المجتمع الجديد وخصوصاً النساء منه، إلا أن أحداث صنع مجتمع جلياد تذكر إلى حد كبير بأحداث صنع مجتمع إيران الإمامي، هذا المجتمع الذي ساهمت في صنعه العديد من النساء مثل شيرين عبادي واللواتي سرعان ما استدارت عليهن ثورتهن لتأكلهن. نحن النساء نؤمن عميقاً ونعمل حثيثاً ونخلص مطولاً لقضايانا، لمهماتنا الحياتية والمجتمعية، فإذا ما اقتنعنا بقضية أو مبدأ ووضعنا أيادينا في موضوع أو مسعى، لا نتركها حتى نفنى دونها، إلا أننا كثيراً ما نفنى حتى بعد تحققها، لنصبح نحن أول "أضرار الحرب الجانبية" وأرخصها قيمة. وهكذا دفعت النساء الإيرانيات ثمن تحرير إيران من قبضة نظام سابق فاسد ظالم، ولا يزلن يدفعن ثمن محاولات تحرير إيران من قبضة نظام حالي عنيف صارم. النساء دوما هن أول ضحايا القمع وأول المتقدمات للتضحية وأول الأجساد المسجاة في سبيل القضية.

كل مجتمع يحكمه نظام ديني هو مشروع جلياد، وكل نساء مساندات للنظام هن مشاريع سيلينا هذه المرأة المساهمة في صنع النظام والمستفيدة منه والتي سيأكلها ذات هذا النظام في يوم ما أو يحولها لرجل مشوه منقوص، وكل النساء المقاومات هن مشاريع جون، هذه المرأة التي تقاوم بجسدها وأعصابها وروحها وتدفع وعيها وعقلها ثمناً لتحرير نفسها وبقية نساء مجتمعها. أعيننا اليوم على كل "جون"، والتي، ويا للمفارقة، ترجمتها الفضفاضة من الإيرانية إلى العربية هي "حب" أو "حياة" أو "قلب"، تحارب بكل ما تملك، بكل ما تستطيع من قوة إرادة ووعي وأعصاب. دوسيت دارم جونم.

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.