شي ومحمد بن سلمان
شي ومحمد بن سلمان

أمران لفتا انتباه المراقبين لزيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ للرياض، الأول؛ أن الأخيرة وضعت لضيفها الكبير برنامج عمل، يماثل، بل ويتخطى البرنامج الذي خصّت به الرئيس الأميركي جو بايدن في أول زياراته لها منذ اعتلى سدة البيت الأبيض.

والثاني؛ أن ولي عهد المملكة خص زائره الصيني بحفاوة استقبال لم يحظ بها زعيم الدولة الأعظم في العالم، قبل ما يقرب من الأشهر الثلاثة. 

هذا في الشكل، أما في المضمون، فإن الزيارة، وما سبقها من تطور لافت في علاقات الصين بالسعودية خصوصاً، والخليج عموماً، وما تخللها من توقيع اتفاقات تعاون استراتيجية، دللت بالملموس على أن الصين بالنسبة للرياض، ليست "ورقة مناكفة" تشهرها بوجه واشنطن عند الاختلاف، ولا هي علاقة تكتيكية تضغط بها الأولى على الأخيرة، بغية تدوير الزوايا الحادة في بعض مواقفها، بل هي تعبير عن توجه استراتيجي، سبق مسلسل الأزمات الأخير في علاقات الحليفين الاستراتيجيين، ورافقه وسيعقبه.

السعودية تغادر سياسة "الاعتمادية" على القطب الأوحد، وتتجه لتنويع علاقاتها الدولية، في شتى المجالات والميادين، في عالم يتجه نحو تعددية قطبية.. تلكم حقيقة جديدة من حقائق السياسة الخارجية السعودية، وإلى حد ما، الخليجية والعربية، وعلى واشنطن أن تأخذ هذا التطور بالحسبان، وهي تصوغ سياساتها واستراتيجيتها، حيال المملكة، والإقليم الأوسع من حولها. 

قمم ثلاث عقدها شي في العاصمة السعودية، الأولى مع قيادة المملكة، شهدت توقيع اتفاقيات تعاون تلامس الثلاثين مليار دولار، وهذا رقم كبير، بيد أنه ليس أكبر من الرقم الذي سبقه عندما زار الملك سلمان بكين قبل خمس سنوات، وأبرم اتفاقات معها بقيمة تناهز الـ 65 مليار دولار.. الأمر الذي أدخل العلاقات بين البلدين في شتى الميادين، بما فيها أكثرها حساسية لواشنطن: الأمن والدفاع، ورفع قيمة التبادل التجاري بينها إلى ما ينوف عن الثمانين مليار دولار سنوياً. 

لكن للقمتين الصينية – الخليجية والصينية العربية، وظيفة أخرى، غير البحث في أوجه التبادلات التجارية، فالمملكة باستضافتها هذا "المسلسل" من القمم، تكون قد رفعت الحرج عن أي دولة من دول المنطقة، لإقامة أفضل العلاقات وأوثقها مع الصين، وهو حرج لمسناه لدى كثيرٍ من عواصم المنطقة، التي وإن كانت بحاجة للمشاريع والاستثمارات الصينية العملاقة، إلا أنها ظلت على ترددها خشية ردود أفعال أميركية غير متوقعة.. الرياض تقود قاطرة الانفتاح العربي على الصين ومبادرة الحزام والطريق، التي حرص ولي العهد على "تكييف" رؤيته "2030" مع مندرجاتها وأهدافها الطموحة، والسعودية كما هو معلوم، نقطة ارتكاز أساسية، وممر إلزامي للطريق والحزام. 

وعندما نقول إن السعودية رفعت الحرج عن بعض العواصم العربية التوّاقة لتعزيز وتوسيع علاقاتها بالصين، لا نقصد تلك العلاقات التي تخص التبادلات التجارية العادية، التي لا تكاد دولة واحدة في العالم "تنجو" منها، بل نقصد أساساً ذلك النوع الحساس من العلاقات في قطاعات لطالما حاربتها واشنطن، وحظرت التعاملات معها، وضغطت لتفاديها تحت طائلة العقوبات، كتلك المتصلة بعملاق الاتصالات "هواوي" أو بالصناعات الأمنية والدفاعية.

في كلا المجالين، أبرمت الرياض اتفاقات تعاون مع الصين، من المنتظر أن نرى ترجماتها في قادمات الأيام، مع أنها ليست المرة الأولى التي تقدم فيها المملكة على اختراق بعضٍ من خطوط واشنطن الحمراء. 

بهذا المعنى، يمكننا القول، وبقليل من التحفظ، إن المعادلة التي اقترحها بعض "الخبراء"، في توصيف علاقات المملكة بكل من الصين والولايات المتحدة، الأولى "جيو – اقتصادية" والثانية "جيو – أمنية"، قد تقادمت، ولم تعد صالحة في عالم اليوم، ومرحلة ما بعد زيارة شي للرياض، فالعلاقة السعودية مع الصين، تلحظ الأمرين معاً، الأمن والاقتصاد، وهي تستند إلى قاعدة التقاء صلبة بين الجانبين، في السياستين الداخلية والخارجية. 

في الأولى، السياسة الداخلية، لا تستطبن العلاقات بين البلدين شروطاً ومعايير من نوع "الدمقرطة" و"احترام حقوق الانسان والأقليات والنساء" و"حماية المجال والحريات العامة"...البلدان لا يكترثان بهذه المنظومة من القيم والمبادئ، وهما تجاهران بأن واشنطن لا تكترث بها كذلك، وأنها بالنسبة إليها، ليست سوى أوراق ضغط و"ابتزاز"، تستخدمها ضد خصومها ومُجادليها، وأن احترام "الخصوصية"، الثقافية والحضارية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام شعار "عالمية المصالح" بدلاً عن "عالمية القيم"، هي القواعد التي يجب أن تحكم النظام العالمي والعلاقات الدولية، وبخلاف ذلك، ليس سوى تعبير عن الاستعلاء والإحساس بالتفوق ورغبة في إدامة الهيمنة السياسية والثقافية. 

وفي الثانية، السياسة الخارجية، لا يجد البلدان صعوبة تذكر في صوغ تفاهماتهما بشأن مختلف القضايا الإقليمية والدولية، فسجل مواقفهما يظهر مروحة واسعة من التوافقات والتفاهمات، وهذا ما تجلى في البيانات الختامية للقمم الثلاث على أي حال. 

"الاختراق" الذي طرأ على مسار العلاقات السعودية – الصينية، وهو مسار ذو اتجاه واحد كما يبدو، لا يعني للحظة أن المملكة قررت إدارة ظهرها للولايات المتحدة، وتحالفها الممتد معها لأكثر من سبعة عقود، ولا يشي أيضاً بسوء التقدير لمكانة الولايات المتحدة كأقوى دولة في العالم، حتى الآن على الأقل، أو أنها فقدت قيمتها "الجيو – أمنية" بالنسبة إليها..بل على العكس من ذلك، فقد أظهرت الأزمات المتعاقبة في علاقات الرياض بواشنطن، أن الأولى، أكثر من الثانية، كانت الأشد حرصاً على ديمومة هذه العلاقات وتطويرها، ولكن من دون "فائض الشروط" الأميركية المفروضة على سياستيها الداخلية والخارجية، سيما حين تظهر الولايات المتحدة، اهتماماً أقل بحسابات حلفائها ومصالحهم وهواجسهم، وهو أمرٌ تسبب بخلق "فجوة ثقة" ما تني تتسع بين الجانبين، لتأتي بعض التطورات الإقليمية فتزيدها اتساعاً، كما حدث في زمن التخلي عن الحلفاء في زمن الربيع العربي وفي الأزمة الأفغانية، على سبيل المثال لا الحصر. 

واشنطن قلقة للغاية من أمر الزيارة وتداعياتها، رغم أنها تحاول جاهدة، إظهار "قلة اهتمام" بها وبمفاعليها، بل ويؤكد الناطقون باسمها أنها لا تسعى لإملاء تفضيلاتها على أصدقائها وحلفائها، فلا تقول لهم مع من يتعاملون أو لا يتعاملون.. واشنطن، تدرك تمام الإدراك، أن أي اهتزاز أو فراغ لوجودها ودورها في الإقليم، لا بد أن تملأه قوى عالمية أخرى..

واشنطن تعرف أن عالم اليوم، يتغير، واستمساكها بالنظام الدولي القديم، لا يعني أنها قادرة على كبح قوى صاعدة، أو على الحد من شهية بعضٍ من حلفائها لتوظيف التعددية القطبية واستثمارها لصالحهم، وهي قبل السعودية، جابهت تحدياً كبيراً من حليف أكثر قرباً، حليف قيل في وصفه بأنه الولاية الحادية والخمسين من ولاياتها، لم يتردد في شق طريق أمام الصين للاستثمار في بناه التحتية ومشاريع الطاقة والاتصالات والنقل: إسرائيل. 

والأهم من ذلك كله، أن الولايات المتحدة تدرك أيضاً، أن ما لديها لم يعد لديها وحدها، وأن ثمة أطراف أخرى تمتلك من الخبرات والصناعات والتكنولوجيا، ما يمكنها من "سدّ أي ثغرات وفراغات" أميركية، على الرغم من كونها لا تزال تتسيّد العالم في كثيرٍ من المجالات والميادين، أقله لزمن منظور، لكن رهان خصومها ومنافسيها، وحتى بعض أصدقائها، ينعقد على عامل الزمن، الكفيل بسد الفجوات. 

لكل هذه الأسباب والدلالات، نتفهم وصف إعلاميين سعوديين لزيارة شي لعاصمة بلادهم، بأنها "استراتيجية" و"تاريخية"، وهي أوصافٌ وإن كانت تحمل بعض معاني "المناكفة" لواشنطن، إلا أنها تظل مع ذلك، محمّلة بالدلالات، التي يصح معها القول، بأن الإقليم برمته، بعد الزيارة، لن يظل على ما كان عليه قبلها. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.