لا شك أن علاقة الشراكة العميقة والطويلة الأمد بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية قد تعرّضت في العقود القليلة الماضية لارتجاجات متتالية، وصولاً إلى وضعها على المحك. أسباب هذا التحول موضوعية في جوهرها، مع مضاعفات ذاتية في أعراضها. في المقابل، فإن إمكانية الارتقاء بالعلاقات التجارية، والتي تزداد اتساعاً وثباتاً، بين السعودية والصين، إلى ما يتجاوز الآني، منطقية وقائمة. دون أن تخلو مظاهر هذه العلاقة وتلك من الأبعاد الاستعراضية والمبالغات الكلامية.
علاقة الشراكة الأميركية السعودية كانت قائمة على مقايضة واضحة وبسيطة. الولايات المتحدة تلتزم بتوفير غطاء الأمن الصلب للمملكة وسائر دول الخليج، بشكل مباشر عبر تواجد قواتها وأساطيلها في المنطقة، وبشكل غير مباشر من خلال مبيعات أسلحة تفي الغرض، مقابل مساهمة رئيسية من الرياض بضمان الأمن الاقتصادي للولايات المتحدة، ولا سيما في منع التبدلات المزعزعة للاستقرار في أسعار النفط، بل في دفع هذه الأسعار، عبر التحكم بالضخ والانتاج، في الاتجاه المناسب لرؤى الولايات المتحدة ومصالحها. لم تكن هذه المقايضة، كما أراد تصويرها خصومها ومعهم بعض السياسيين الأميركيين، علاقة تبعية وإملاءات، وإن لم تكن ندية بحكم الأحجام، بل شكلت بالنسبة للسعودية سبيلاً لتحويل الثروة الطبيعية إلى وزن اقتصادي وحجم سياسي، بما يتماشى مع المصلحة الذاتية والرؤية المعنوية. وفي حال بلغ التعارض في المصالح والاعتبارات درجة غير مناسبة، فإن الرياض كانت قادرة على اتخاذ الموقف المنسجم مع رؤاها.
المثال الأبرز كان طبعاً استعمال السعودية، مع غيرها من الدول المصدّرة، لسلاح النفط في خضمّ الحرب العربية الإسرائيلية في السبعينات. ولكن حتى بعد السعي الغربي عامة والأميركي خاصة إلى تطويق تكرار الحدث وتجنب الإفراط في الاعتماد على نفط الشرق الأوسط، تمكنت السعودية من إيجاد السبل لتأثير مرجّح لها في أكثر من ملف في واشنطن، في السر وفي العلن، ولا سيما في زمن تولي بندر بن سلطان منصب السفير لدى الولايات المتحدة. أي لا هي كانت علاقة تابع ومتبوع، ولا علاقة ندية قائمة على الثقة والوئام.
على أن المنطلقات الأساسية لعلاقة المقايضة تبدلت بدءاً من تقليص الولايات المتحدة من اعتمادها على نفط الشرق الأوسط إلى مستويات دنيا، وصولاً إلى تطوير تقنيات التنقيب، وخاصة في مجالي النفط الصخري والغاز، والذي رفع الولايات المتحدة من موقع المستهلك للطاقة إلى مقام المنتج لها، بل إلى الصف الأول عالمياً من حيث المخزون والاحتياطي، وما نقل واشنطن من الحديث عن "استقلالية الطاقة"، أي التخلي عن كل استيراد من شأنه تحدي قرارها السياسي، إلى إمكانية توريد النفط والغاز إلى الحلفاء لحمايتهم بدورهم من الارتهان لقرارات الدول المصدّرة الأخرى، مع تحفّظ بعض هؤلاء الحلفاء لتجنب أن يكون في الأمر ارتهان مقابل بديل للولايات المتحدة.
فالشراكة الأميركية السعودية، وإن استمر زخمها بحكم طبيعتها البنيوية والمؤسساتية، تراجعت من حيث الأهمية في قراءات الرئاسات الأخيرة المتعاقبة في واشنطن، أوباما، ترامپ، بايدن. بل أن هؤلاء الرؤساء الثلاثة هم الذين فرّطوا بهذه العلاقة ودفعوا بها إلى التأزم.
واقع الأمر أنه نتيجة تصورات وتصويرات تنميطية ارتيابية عدائية، وعلى خلفية صدمة النفط في السبعينات، لم تحظَ الشراكة الأميركية السعودية منذ فترة غير وجيزة بالتأييد العارم شعبياً في الولايات المتحدة. بل ما تكرّس هو أن السعودية هي تجسيد للنقيض الإسلامي والعربي للولايات المتحدة بصورتها الحضارية الذاتية، سواء في شأن حقوق الإنسان ولا سيما قهر النساء، أو في مظاهر الثراء الفاحش والتزمت والتراتبية الاجتماعية. وجاءت اعتداءات الحادي عشر من أيلول عام 2001 لتزيد من إشكالية الصورة السعودية شعبوياً، وتكرار أن معظم الإرهابيين المعتدين هم من السعوديين أمر مستقر في الخطاب التعبوي هنا. وإذا كان طاقم الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش قد اجتهد لضبط الموضوع، فإن باراك أوباما، لافتقاده الخبرة والاهتمام بالعديد من مسائل الشرق الأوسط، قد أساء إدارته (كما غيره من مسائل المنطقة)، بل فاقمه إعلامياً من خلال تصريحات تبرز، بيانياً وحسب، المسافة "القيمية" بين واشنطن والرياض. ثم تمكن، وهو الحائز عند فوزه بالرئاسة على جائزة نوبل للسلام والمحتاج إلى الإنجاز، من تمرير الاتفاق مع إيران، على علاته وقصوره وتفريطه بالعديد من المصالح، دون اطلاع الشركاء في منطقة الخليج على تفاصيله وعواقبه، أو استشارتهم أو حتى إعلامهم بالأمر وإن من باب اللياقة.
وفي حين أن دونالد ترامپ قد صدح بإنكار اتفاق أوباما مع إيران وتخلى عنه، فإنه، بين إعلانه الرغبة الجامحة باغتراف المال الخليجي، وتبجحه المبتذل بصفقات السلاح الضخمة مع دول الخليج، ثم في ارتياده الخلافات الخليجية التي أطاحت بتجربة مجلس التعاون للمزيد من الكسب المالي، لم يتحرك كما يقتضي واجب الشراكة يوم واجهت السعودية اعتداءً على منشآتها النفطية، بل تركها تتساءل عن جدارة حول جدوى هذا الترتيب، وفائدة هذه الشراكة.
وبعد أوباما الذي ترفّع عن الالتزام بالمقتضى المعنوي للشراكة، وترامپ الذي تخلّف عن تنفيذ وجهها العملي، يأتي بايدن، في مكان ما بين الحق الجلي حول الجناية السعودية على حياة جمال خاشقجي، والتوظيف المبتذل للشعبوية المعادية للسعودية، ليتخذ مواقف انتخابية عالية السقف، وليجد نفسه مع متطلبات الحشد الدولي إزاء الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وحاجاته الاقتصادية الداخلية، مضطراً إلى التراجع عنها، والتواضع في المواقف والخطوات، إلى حد الوضاعة.
موقف الرياض الداعي إلى توضيح العلاقة الأميركية السعودية، والسير بها باتجاه المعاهدة الملزمة، وعدم الاكتفاء بالشراكات الواهية، هو موقف منطقي وموضوعي. ما هو أقل منطقية، وأقل موضوعية، هو أسلوب المطالبة بهذه الترقية. سواء كانت المسألة أن الأمير السعودي أراد رد الصاع صاعين، بعد أن أدانه الرئيس بايدن، عن استحقاق، لجريمة قتل جمال خاشقجي، أو أن الأمر قد انضوى على سوء تفاهم، فإنه، من وجهة نظر واشنطن، كان قدوم الرئيس بايدن إلى السعودية في أكتوبر الماضي ضمن صفقة موضعية، أي أن يتراجع بايدن فعلياً عن تهجمه على السعودية، مقابل ليونة من الرياض في مسألة رفع الانتاج، للتخفيف من الضغوط على شعبيته قبيل الانتخابات. بايدن جاء إلى السعودية، متخلياً عن سقفه العالي، ليستقبله الأمير الشاب استقبالاً فاتراً، دون الحفاوة السعودية المعتادة في الزيارات المماثلة، ولا بأس بذلك على أي حال، ثم ليعود إلى بلاده ويتلقى بعد هنيهة نبأ أن السعودية تسير مع روسيا في مسعى خفض الانتاج، خلافاً للوعود المفترضة ربما وخلافاً بالتأكيد لمصلحة بايدن. أي بدت المسألة وكأن في الأمر نكاية ومسعى إلى الإضرار الانتخابي.
النتيجة التي حققها حزب بايدن في الانتخابات النصفية تسمح بتجاوز محاولة الإضرار، حيث إن الضرر لم يقع، بغضّ النظر عن النوايا. غير أنه في التجربة حلقة إضافية تسجّل في أوساط أميركية عديدة للأمير الشاب. قيادته ذكية في مواضع، متذاكية في أخرى. جريئة في حالات، متهوّرة في حالات أخرى. أي أن الوثوق به ليس من الثوابت. المخضرمون من السياسيين السعوديين يدركون أنه ثمة مجال للتأثير في واشنطن انطلاقاً من التجاذب بين الحزبين، غير أن الأسلوب المعتمد من الرياض يبدو مسطّحاً ومكشوفاً غير ذي فعالية في هذا الصدد، إلا في توجيه المال العام لأغراض مبهمة، كما عند تخصيص المبلغ المرقوم لدعم صهر الرئيس السابق. مع وفرة العائدات غير المحسوبة من ارتفاع أسعار النفط، قد لا تكون هذه أرقام مثيرة للقلق (أما كلفة المشاريع الخيالية، الخرافية، الشاطحة، في الشمال الغربي للبلاد، فمسألة أخرى)، ولكنها تشير إلى نوايا تستجلب في المقابل الكثير من الارتياب.
الرئيس الصيني شي جينغ پينغ جاء إلى الرياض، وحظي بالحفاوة المتوقعة. تجارياً، الصين هي الشريك الأول، للسعودية، كما للولايات المتحدة، وكما لمعظم الدول. هي مصنع العالم، ومع توالي جمعها للأرصدة، قد تصبح مصرف العالم، أي الشريك الأول بالاستثمارات. ولكنها سعودياً، لا توفّر إلا ما هو أقل من العشر من مستوردات السلاح، فيما حصة الولايات المتحدة تقارب النصف. ثم أن الصين، بغضّ النظر عن رؤيتها المستقبلية، ليست بصدد توفير المظلات الأمنية أو الوساطات السياسية أو التوازنات الدولية. على الأقل، ليس هنا، وليس الآن.
عقود، واستثمارات، وإعلان عن شراكة طويلة الأمد، يصاحبه كلام إعلامي في جلّه عن طموح بالپترويوان إزاء الپترودولار. ذكاء، أو تذاكي، أو مزيج منهما. هذه هي حصيلة الزيارة الصينية. أما القمة الصينية الخليجية، والقمة الصينية العربية، فليست من طينة لقاءات القمة الصينية الأفريقية مثلاً. مع أفريقيا، كما مع أوروبا، الصين مستعدة للحضور الفوري. المنطقة العربية؟ في وقت لاحق ربما.
قد يكون الغرض من هذا الاستعراض من جانب السعودية هو تثبيت القيادة، داخلياً وعلى مستوى المنطقة، وليس النكاية بالشريك المهتز في واشنطن. أو ربما أن في النكاية ما هو تثبيت للقيادة. على أي حال، فيما يتعدى ذلك، الولايات المتحدة، والتي أخطأت مراراً في المرحلة الماضية سعودياً، لا تزال هي المؤهلة لكي تكون الشريك الأساسي، عسكرياً سياسياً، في مواجهة إيران، وفي التصدي لاستحقاقات خطيرة، بيئية ومائية وغذائية، لن تنجو منها منطقة الخليج. حاجة السعودية وواجبها تنويع الشراكات، ولا سيما بناءً على تجربة الشراكة مع الولايات المتحدة في مرحلتها السابقة. الصين هي الوجهة الطبيعية في مسعى التنوع. على أن أهمية الشراكة مع الولايات المتحدة لم تتراجع، وإن أخطأ رؤساؤها في معاملتهم للسعودية. المصلحة المشتركة تقتضي طي الصفحة، والانتقال بالشراكة إلى صيغة تحالف، وإن جزئية، إنما بعيداً عن الاستعراض.