حمد بن تميم يلبس ميسي عباءة عربية
تميم بن حمد يلبس ميسي "البشت".

شهد مونديال قطر 2022 وقائع أثارت جدلاً واسعاً في أول نسخة تقام في الشرق الأوسط، حيث شهدنا رسائل سياسية بعضها مرتبطة بالإسلام السياسي وأخرى متعلقة بالليبرالية الغربية، وهنا شعرنا وكأن البطولة انشقت بين عالمين متضادين بعيدين كل البعد عن الروح الرياضية التي المفترض أن تمتعنا بها أي مناسبة رياضية عالمية، لكن لحسن الحظ بعد ذلك الصراع انتهى المونديال نهاية سعيدة. 

فمنذ بداية المونديال، أفادت مصادر إعلامية بأن قطر وجهت دعوة رسمية للداعية الإسلامي الهندي الأصل، ذاكر نايك، لحضور افتتاح مونديال كأس العالم 2022 أو المشاركة في فعالياته، ثم تم تكذيب الخبر.  وما جعل الغالبية تصدق شائعة دعوة الداعية المتطرف – وكان قد اتُهم بإلقاء خطابات تحريضية على المجتمعات الهندوسية والصينية التي تعيش بين المجتمعات المسلمة – بالرغم من تكذيب صحيفة "إنديا توداي" India Today للشائعة، هو موقف قطر من الإخوان ومن الإسلام السياسي عموماً، خاصة ما قامت به منذ ما يسمى بـ "الربيع العربي"، ولذلك انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم في وسائل التواصل الاجتماعي. 

ومن هنا بدأ المونديال يأخذ منحى صراع الأيديولوجيات المتناحرة. والسبب الآخر أن التغطية الإعلامية للمونديال كانت وكأنها ليست فعالية رياضية، بل إسلامية، فكان يبدو وكأن قطر لا تريد أن تخرج من عباءة الشعبوية الجماهيرية، مستغلة أن هذا المونديال الأول في دولة عربية مسلمة وبالتالي سيكون فرصة لنشر الدين الإسلامي وأيديولوجية الإسلام السياسي الذي طالما دعمته قطر.

أما الملف الآخر، الذي ركز عليه أيضاً هذا المونديال هو القضية الفلسطينية وذلك بتوزيع الأعلام والكوفية الفلسطينية. لا أحد ينكر أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب، فهي تعني أجيال بأسرها وتحظى بأكبر تغطية إعلامية، ليس فقط عربية بل عالمية، لكن الذي كان واضحاً أن الهتافات لمناصرة القضية الفلسطينية لم تكن تلقائية من قبل الجماهير، بل منذ انطلاق مباريات كأس العالم 2022 في قطر، شوهد العلم الفلسطيني مرفوعاً في مدرجات استاد البيت في حفل افتتاح البطولة وفي مباراة الافتتاحية بين قطر والإكوادور، كذلك كانت هناك حملة إلكترونية تحت اسم "حلم فلسطيني"، وشاهدنا أيضا العلم الفلسطيني حول أذرع مشاركين في التنظيم. كل ذلك دليلاً أن تلك الهتافات الجماهيرية لم تكن عشوائية أو تلقائية، بل كانت مرتبة منذ بداية المونديال ولها أهداف سياسية.  

بعض المحللين يرجعون الأهداف لتلك الحملات أنها ليست فقط لمناصرة القضية الفلسطينية، بل لإحراج الدول العربية الموقعة على الاتفاقيات الإبراهيمية ومن منظور أن قطر تريد أن تقدم نفسها كقوة تنافسية لتلك الدول، وتريد أن تقول فيها: في الوقت الذي تجاوزت تلك الدول المشاعر الشعبية المؤيدة للفلسطينيين من أجل تعزيز مكانتها الإقليمية، فقد فضلت قطر مساراً مختلفاً، يتداول على احتضان الشعبوية العربية كمسار للنفوذ السياسي.

لكن هل وقفنا عند هذا التسييس العربي، بالطبع لا. بل هناك تسييس آخر من الأيديولوجية الليبرالية الغربية التي ابتدأت بلاعبي المنتخب الألماني بتكميم أفواههم بعد منعهم من ارتداء شارة لدعم المثليين. فقد كانت النية لدى قادة سبع منتخبات أوروبية ارتداء تلك الشارات في إطار حملة لرفض التمييز خلال البطولة في قطر، لكن الخطوة أجهضت بعد تلويح الفيفا بعقوبات تأديبية. ومع كل تلك التحذيرات ظهرت وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، وكذلك وزيرة خارجية بلجيكا، حجة لحبيب، وهما يرتديان شارة "حب واحد" لدعم المثليين ورفضهما لقرارات الفيفا، مما أثار غضب المشجعين العرب لما فيه عدم احترام لعادات المنطقة والدولة المستضيفة للمونديال.

ورداً على تصرف اللاعبين الألمان والوزيرتين الأوروبيتين، والذي ازداد بعد خسارة المنتخب الألماني وخروجه من المونديال، وقد أرجع الكثير من المحللين العرب سبب ذلك إلى أن منتخب ألمانيا وضع الأولوية لأجندات سياسية وليست لكرة القدم وفنونها فكان مصيره الخسارة، وفي المقابل شاهدنا التركيز في المونديال على عناق لاعبي المنتخب المغربي لأمهاتهم الذي اعتبرته الكثير من الجماهير ترسيخ لـ "القيم العائلة" وتقديس لقيم الأسرة وعلق الكثيرون أن ذلك كان له الدافع النفسي الأبرز في تحقيق النجاح الذي بلغه المنتخب المغربي، وذلك عكس ما تريده الدول الغربية من تحطيم لمفهوم الأسرة والعائلة، وبالتالي أصبح المونديال وكأنه أشبه بصراع الحضارات. 

ورغم أن مونديال قطر 2022 تم تسيسه للغاية، لا أحد ينكر الجهود القطرية الرائعة في التنظيم والفخامة في تجهيز الملاعب على أكمل وجه حتى أنها رفعت مستوى المنافسة لمن سيستضيف المونديال بعدها، وقد أثار ذلك النجاح حسد الكثير من الدول الغربية على حد تعبير بعض الكتاب العرب.  أما اللفتة الأخيرة كانت من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني عندما ألبس ميسي الـ "بشت" (العباءة الخليجية) قبل أن يقدم له كأس العالم، بوجود رئيس "الفيفا" جياني إنفانتينو. ومن ثم توشح ميسي بـ"البشت" أثناء وقوفه على منصة التتويج ورفع الكأس مع زملائه. إن إلباس الشيخ تميم الـ"بشت" لميسي، له دلالات رمزية، إذ يعدّ تكريماً من قبل الشيخ تميم، ويشير إلى الكرم العربي، كما يتم ارتداء البشت في قطر ودول الخليج في المناسبات الخاصة والأفراح، ويرمز للأصالة والهوية الوطنية نظراً لقيمته التراثية. 

ومع كل الجدل السياسي الذي طال مونديال 2022، انتهى نهاية سعيدة أشبه بالعرس الخليجي والذي جعلني أتساءل، إن كان باستطاعة قطر أن تقوم بهذا التنظيم وهذه الفخامة وتشرفنا وتسعدنا في محفل رياضي عالمي مع الحفاظ على هويتنا الخليجية بهذا الأسلوب الممتع الراقي، لو لم تقحم نفسها في تلك الأيديولوجيات المتطرفة وكرهت بنفسها من خلال إعلامها المعادي، لوقفنا بجانبها في هذه الهجمة الإعلامية الغربية التي طالتها أثناء المونديال، لكن كما ذكر صحفي سعودي: "لماذا الأخوة في قطر غاضبون لنقلي لما يكتب عنهم في الإعلام الأوروبي، فهل نسوا ما كان يفعله إعلامهم أثناء قضية خاشقجي".  فما شاهدناه في آخر يوم في المونديال يؤكد قدرة قطر على أن تكون دولة محبوبة من الجميع.  فهل قطر قبل المونديال ستظل هي قطر بعده؟  

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.