الموضوع صار حربا حقيقية مما تطلب تدخل الجيش الأردني بكامل أهليته العسكرية
الموضوع صار حربا حقيقية مما تطلب تدخل الجيش الأردني بكامل أهليته العسكرية

ما حاجتك إلى جيوش احتلال تضحي فيها بقواتك البشرية وعتادك العسكري وأنت قادر على القتل والإبادة الجماعية والتدمير المجتمعي بتكاليف أقل بكثير وفعالية أكبر؟ 

هذا سؤال يخطر على بالي وقد دفعني الفضول إلى متابعة جرائم القتل المعطوفة على انتشار المخدرات والتي انتشرت بما يتجاوز "الظاهرة" في الأردن وسوريا ولبنان والسعودية والعراق واليمن، طبعا مع جيوب لا تزال في حدود الظاهرة في مصر وشمال أفريقيا.

من بين أكثر المشاهدات الدرامية على قناة نتفليكس كان تلك القصص التي توثق حياة بابلو أسكوبار، والرجل صاغ أسطورته الذاتية من خلال "كارتل ميدلين"، وهي مدينة كولومبية فقدت السيطرة الأمنية للدولة فيها ونشرت عدوى الفوضى إلى سائر كولومبيا لتصبح تلك الدولة رديفا لكل أنواع الجريمة والخوف والإرهاب الدموي المنظم.

اليوم، نحن أمام كارتل جديد عالمي ويتوسع إقليميا، مقره سوريا "نظاما ومعارضة بتحالف غرائبي" وعرابه إيران، ومليشياته المتوزعة قوات من المغامرين الذين يرغبون بالثراء السريع، ولا يتحقق مثل هذا الثراء الخرافي إلا بتجارة المخدرات.

القصة لم تعد حالة أمنية يمكن السيطرة عليها من خلال أقسام بوليسية متخصصة في المكافحة، وباعتقادي مما أسمع وأشهد في الأردن أن الموضوع صار حربا حقيقية مما تطلب تدخل الجيش الأردني بكامل أهليته العسكرية على تخوم الحدود الشمالية والشرقية في مواجهات عسكرية احترافية مع جماعات مسلحة ومجهزة بأحدث التقنيات فقط لتهريب "وتمرير" المخدرات المصنعة محليا في سوريا عبر خط الحدود الأردني.

فعليا، ومن خلال تواجدي في الأردن، ومع كل الأحداث المؤسفة التي تعصف بالمشهد المحلي الأردني والتي توازت مع قمة "إقليمية" شهدها البحر الميت وحضرتها إيران ممثلة بوزير خارجيتها، فإنني لم أسمع عن أي إشارات تثير تلك القضية "الإقليمية" بين الأطراف في الإقليم وإيران!

الجهة الوحيدة التي "تأكدت شخصيا" أنها تأخذ القضية بكامل الجدية والاستنفار المطلوب كان في القوات المسلحة الأردنية نفسها! مما يجعلني أتساءل إن كان هذا كافيا دون إسناد سياسي رفيع المستوى يحمل الرسالة "العسكرية" الأردنية إلى الإقليم الذي بواقع الحال والضرورة الجغرافية يدافع عنه الأردن.

الخطورة في هذا الكارتيل "المستجد" أنه لا يسعى للربح في نهاياته وامتداداته القصوى والنهائية، ومما سمعت من مصادر على تماس مباشر وعضوي مع خطوط التماس الحدودي أن هناك توجيهات للمهربين المحليين بترك بضائعهم على الأرض في حال شعورهم بالخطر، وهذا توجيه غريب لمن يرغب بالتربح والتجارة فقط، مما يجعل تصنيع وتجارة المخدرات وتوزيعها غاية بحد ذاتها مهما كانت تكاليف الخسارة في المواجهات!

ألا تستحق القضية اجتماعا إقليميا يواجه خطرا يتجاوز الإقليم نفسه، وقد انتبهت أوروبا إلى عمليات تهريب وصلت الموانئ اليونانية عام 2018 مصدرها ميناء اللاذقية وبكميات خرافية محملة على سفينة شحن قوامها حبوب الكبتاغون المصنعة في الأراضي السورية وبتقنيات رخيصة؟ 

جرائم القتل "النوعية" من ناحية غرابيتها وبشاعتها تنتشر في الأخبار وتثير الرأي العام وتضج وسائل الإعلام بالحوارات التي تتحدث عن بشاعتها مع فرق كاملة من المحللين الاجتماعيين والنفسيين، لكن الكل يتحدث أيضا وبوضوح عن انتشار المخدرات "الرخيصة والمتاحة بسهولة" في الجامعات والمعاهد العلمية وقد سمعت من أساتذة كليات عن شهادات عيان وقد ضبطوا طلابا في كليات جامعية يتعاطون المخدرات الموجودة والمنتشرة، بل والمباعة في نقاط توزيع منتشرة في كل مكان.

ليس في هذا المقال إسقاط على الأحداث الأخيرة في الأردن، لكنه على ضفاف تلك الأحداث التي تحتاج مقالا " قيد التحضير" يجادل في العمق الاجتماعي والسياسي الأردني، لكن القمة التي عقدت على هامش الأحداث كانت مثيرة للانتباه إلى حد التفكير بقضية إقليمية "خطيرة" تمارس فيها إيران ووكلاء المشروع التوسعي الإيراني سلاحا جديدا وفتاكا على طريقة حصان طروادة التاريخي.

وما يحدث في الأردن من مشاهدات أتحدث عنها هنا هي مقاربة لأي مشاهدات يمكن التقاطها بسهولة في الجوار الإقليمي كله وبلا استثناء.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.