إقليم كردستان في احتفالات عيد النوروز
إقليم كردستان في احتفالات عيد النوروز- أرشيف

أيا كانت نوعية الجريمة الأخيرة التي استهدفت النشطاء الأكراد في مدينة باريس، سواء أكانت إرهابية تستهدف الضحايا باعتبارهم أكرادا، أم جنائية عنصرية استهدفتهم بكونهم أجانب، فإنها لن تُحدث أية تبعات أو ارتدادات مستقبلية، سواء سياسية دبلوماسية أو أمنية أو ثقافية. فكل ما سيترتب عن الأمر هو الفاعل التحقيقي والقضائي "البارد": مجموعة من إجراءات الادعاء والحق العام، وفقط كذلك. 

سيحدث ذلك لأنه ليس من دولة تعتبر الضحايا من ذويها. الدولة باعتبارها جهة ذات شرعية وحضور ومكانة في المجتمع الدولي، تملك ثقلا في المحافل والمؤسسات الدولية، وفي العلاقات بين البلدان والجماعات الكبرى، جهة تفسر هذا الاعتداء بكونه مسا بها، رمزيا وماديا، وتاليا تأخذ مقام الجهة المدعية، وفوق ذلك مكانة الطرف الرادع لإمكانية تكرار ذلك مستقبلا. فالضحايا مجرد أفراد، منسلخون ومعزولون، من دون سند وأرومة اسمها الدولة. هم أكثر من ذلك، حتى أن الدولة التي يحملون أوراق مواطنيتها، إنما تعتبرهم "أعداء"، وغالبا ما تقف وراء مثل هذه الجرائم. 

ينبع هذا الحُكم من سلسلة من الأحداث الشبيهة، التي تراكمت طوال العقود الماضية، وخلقت هذا المناخ من اليُتم والهوان الذي صار يلف الأكراد في مختلف أصقاع العالم، بالضبط مثلما هي أحوالهم في البلدان التي قدموا منها. فكل الجرائم التي طالت هؤلاء الأكراد، ومهما كانت درجة العنصرية والإرهاب والقصدية التي بها، فإنها، مع تبعاتها، لم تتجاوز يوما مرحلة كونها "حدثا جنائيا"، يعاقب فيها الجناة بالحد الأدنى، كممارسة لغسل ماء وجه تلك الدول ومؤسساتها القضائية، ثم ما يُلبث أن يُتركوا عبر صفقات سوداء مع الدول والأجهزة المخابراتية التي ارسلتهم لفعل ذلك. 

لا حد للجرائم التي يمكن تصنيفها ضمن ذلك السياق، قادة وزعماء سياسيون أكراد قتلوا في مقاهي وفنادق العواصم الأوربية، ولم يحدث أي شيء، حتى أن القتلة تم إطلاق سراحهم عبر صفقات دنيئة، بين هذه الدول واستخبارات الدول الإقليمية. مثلما حدث قبل سنوات بين إيران وألمانيا، التي رحلت القاتل "كاظم درابي" إلى إيران، وهو الذي كان قد اغتال الزعيم الكردي الإيراني، صادق شرفكندي، في مقهى وسط العاصمة برلين وفي وضح النهار. القاتل الذي اُستقبل استقبال الأبطال في إيران. حدث الأمر نفسه مع قاتل الناشطات الثقافيات الكرديات الثلاث في العاصمة الفرنسية باريس نفسها قبل سنوات، الذي قالت السلطات الفرنسية "لقد انتحر"، وفقط كذلك. ومثلها جرائم كثيرة لا تُعد. 

يجري ذلك بحق الكُرد تحديدا، لطاقة الهوان والاستضعاف التي تلفهم. فمثل هذه الجرائم كانت ستجر أزمات سياسية ودبلوماسية واقتصادية كبرى، وربما حروبا بين الدول، لو كان للأكراد دولٌ، أو حتى دولة واحدة. فهذه الأخيرة، وحسب ما تنص عليه دساتيرها، إنما مخولة للدفاع عن مواطنيها، داخل أراضيها وفي مختلف أنحاء العالم. فهي تدافع عنهم أياً كانت مواقفهم وخياراتهم السياسية، فهم محميون بحكم الأعراف والدساتير، التي تذود عنهم في وجه الكراهية والعنف والعنصرية في أي مكان كان. وإن وقعوا ضحايا، تتابع قضاياهم كجهة مخولة بـ "ولاية الدم". 

بهذا المعنى، فإنه ثمة ما يطابق بين الأوضاع الكردية الراهنة وما عاشه الغجر طوال قرنين كاملين مضيا. فالكُرد اليوم يستعيدون تلك المأساة الغجرية المريعة، مرارة فقدان الاعتبار والمكانة، نظر الآخرين لهم كأناس وجماعات قابلة للتعنيف والازدراء، دون أثمان وتبعات. 

منذ أواسط القرن التاسع عشر، ومع ارتفاع وتيرة التحديث ونشوء الدول القومية، تعرض الغجر لكل ما قد يخطر في الخيال من جرائم شائنة قد تطال جماعة أهلية ما: مجازر قتل جماعية طالتهم. إجراءات وممارسات عنصرية لا حد لدناءتها، من مثل قياس الجماجم والذراعين، أخذ الأطفال وترحيل الأهم بحجة تمدين الأجيال القادمة. هندسة اجتماعية رحلتهم بشكل جماعي من بلد، وربما من قارة، إلى أخرى. تطهير عرقي لمنطقة جغرافية منهم بدعوى حماية الحضارة. منعهم من ممارسة بعض المهن أو الوصول إلى الكثير المؤسسات والوظائف الحكومة. تشكيك دائم بجدارتهم العقلية والروحية، تهافت لإخراجهم من الأرومة الآدمية، نظريات وأفكار عنصرية حول نوازعهم النفسية... الخ.

لكن، ألم تمارس مثل تلك الأفعال بحق مختلف الجماعات والتكوينات الأهلية في مختلف مناطق العالم، ولم تكن حصرا بحق الغجر!. 

صحيح، لكن مع فارقين جوهريين: 

فالجماعات التي تعرضت لواحدة أو أخرى من الشنائع، إنما واجهت شيئا واحدا منها فحسب، وليس كلها مجتمعة، كما حدث مع الغجر طوال هذه القرون. كذلك فإن مختلف الجماعات إنما خضعت لذلك ضمن "مناخ ساخن"، من الحروب والصراعات، على عكس الغجر، الذين كانوا جماعة "مستسلمة الإرادة" على الدوام، من دون مطالب ودعوات. فما جرى بحقهم كان لما في ذوت الآخرين، وليس في سلوكياتهم هم. 

الأمر الآخر كان كامنا في التبعات. فتاريخ المسألة الغجرية ليس سيرة العنف والقمع والكراهية التي مورست ضدهم لقرون، لكنه تاريخ دوام الصمت والمساكتة المتبادلة بين الجناة والعالم، بكل دوله ومؤسساته، الأممية والإقليمية والمحلية على حد سواء، الثقافية والفكرية والاجتماعية. 

فالسود واليهود والأرمن، ومثلهم جماعات أخرى كثيرة، كانوا ضحايا أفعال مريعة مثل تلك خلال هذه الأزمنة. لكنهم، مع قضاياهم والأحداث التي جرت بحقهم، ما لبثوا أن تحولوا إلى قضايا ومسائل شائكة، تُطرح بشأنهم أسئلة ثقافية وسياسية على مستوى العالم، نالوا عبرها أنواعا من الاعتراف والاعتذار وإعادة الاعتبار والمكانة، ولو بعد حين. 

هذا الأمر الذي لم يحدث مع الغجر قط، لم يتحولوا مع الأحداث والآلام التي جرت بحقهم إلى قضية سياسية وسؤال ثقافي وجرح أخلاقي فيما بعد. فكل ما حدث بحقهم ذوى دون أن يصبح ذاكرة جمعية أو جرحاً في الذات الجمعية، لم تنقطع العلاقات بين الدول أو تحدث مواجهات عسكرية بين الكيانات بسبب ذلك، أتفق الجميع على الفعل والمساكتة المتبادلة فيما بينهم. 

يواجه الأكراد الأمر نفسه راهنا، وللأسباب ذاتها، لأنهم ملايين الأناس المنتمين لأرومة مختلفة، لهم سرديتهم وتفسيرهم ولغتهم الخاصة، معجونون بمطالب ودعوات تهز عضد كيانات وعلاقات ومصالح وتداخلات إقليمية وعالمية. يفعلون كل ذلك دون أن يكون لهم دولة، فيواجهون "المصير الغجري".  

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.