الرئيس التونسي يصدر مرسوما بتعديلات على الهيئة المستقلة للانتخابات
تظاهرة سابقة ضد قرارات اتخذها الرئيس التونسي- أرشيف

في مثل هذا اليوم قبل إثني عشر عاما كان هناك شاب تونسي في السادسة والعشرين من عمره يرقد في المستشفى بعد أن أحرق نفسه احتجاجا على صفع شرطية له أمام عشرات الشهود ومصادرة عربة الفواكه التي تمثّل مصدر رزقه الوحيد، بكى حينها الشاب من شدة خجله، وقال للشرطية: لماذا تفعلين هذا بي، أنا إنسان بسيط لا أريد سوى أن أعمل، ثم حاول تقديم شكوى للبلدية دون نتيجة، فأضرم النار في نفسه، وتوفّي بعد عدة أيام، هذه هي قصة، محمد البوعزيزي، الذي كان موته الشرارة التي أشعلت عدة ثورات ضد أنظمة حكم ديكتاتورية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، كانت تتعمد إهانة مواطنيها لقناعتها بأنها لا تستطيع الاستمرار في الحكم إلا عبر زرع الخوف في قلوب الشعب. 

في ذلك الوقت لم يكن أحد يتوقع أن إهانة هذا الشاب ستنهي حكم، زين العابدين بن علي، ومعمر القذافي، وحسني مبارك، وعلي عبد الله صالح، في الموجة الأولى، وحكم عمر البشير، وعبد العزيز بوتفليقة، في الموجة الثانية، بحيث لم يبقَ من تلك الأنظمة اليوم سوى سلطة شكليّة لبشار أسد على بلد منقوص السيادة، خصوصاً لأن جميع هؤلاء الرؤساء وبعد عقود من السلطة المطلقة توصّلوا إلى قناعة باستحالة تجرّؤ الشعب على الثورة ضدهم حتى بلغ الاستهتار عند بعضهم إلى حد محاولة تمهيد الطريق لتوريث الحكم لأولادهم. 

وقد أدت هذه الثورات إلى غرق الدول التي كانت مؤسسات الدولة فيها ضعيفة مثل ليبيا وسوريا واليمن في الفوضى حتى اليوم، بينما شهدت دول أخرى بدايات تحوّل نحو نظام ديمقراطي، ففي مصر تم إجراء أول انتخابات بعد الثورة فاز فيها بأغلبية بسيطة مرشح للإخوان المسلمين وسرعان ما ثار الشعب المصري على حكم هذا التنظيم وتمكّن من إسقاطه بعد عام واحد لأنه لا يملك برنامجاً للحكم. 

وأجريت انتخابات فاز فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي وكان من الممكن أن تتابع الأوضاع سيرها نحو التحوّل الديمقراطي لكن تعديلات "دستورية" تم إقرارها عام 2019 قضت على أي أمل بتحقيق ذلك، لأنها فتحت الباب لبقاء الرئيس السيسي في الحكم لستة عشر عاما متواصلة من عام 2014 حتى عام 2030، وترافقت هذه التعديلات مع استفراد مؤسسة الرئاسة بالسلطة وغياب دور أجهزة الدولة وتراجع غير مسبوق في هامش الحرّيات. 

وفي السودان انقلب المكوّن العسكري على المكوّن المدني في سعي للانفراد بالحكم رغم تواصل الاحتجاجات الشعبية ضده ورغم الرفض الدولي الواسع له، وفي الجزائر بعد عزل بوتفليقة وعائلته عام 2019 والتي كان من الممكن أن تشكّل بداية تحول سياسي حقيقي توفّي رئيس الأركان وقتها، قايد صالح، بأزمة قلبية مما أعاد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الاحتجاجات. 

وفي يوليو من عام 2021 اكتملت انتكاسات التحوّل الديمقراطي في تونس عندما قام الرئيس قيس سعيد بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإقالة رئيس الحكومة وحصر السلطة في يده تحت شعار إصلاح مسار الثورة بينما رأت فيه المعارضة والمنظمات الدولية إنقلابا على الثورة، وعندما أقال قيس سعيد 57 قاضيا بتهمة الفساد وحماية الإرهابيين ضمن ما أسماه تطهير القضاء عقّب الناطق باسم الخارجية الأميركية "بأن إجراءات التطهير تشير إلى نمط مُقلق من التصرفات التي تقوّض المؤسسات الديمقراطية المستقلة في تونس". 

وترافق انفراد قيس سعيد بالسلطة مع زيادة في إنهيار الوضع الإقتصادي والمعيشي تظاهر في عجز غير مسبوق في الميزان التجاري وارتفاع نسبة التضخّم وزيادة المديونيّة مع نقص السلع الغذائية الأساسية والوقود أدّت إلى زحام وفوضى في الأسواق وارتفاع في الهجرة غير الشرعية عبر القوارب إلى أوروبا وما رافقها من غرق عشرات الشباب. 

ولا يستطيع الرئيس قيس سعيد إلقاء اللوم في ما يحدث في تونس على أحد سواه، فهو صاحب السلطة المطلقة الذي قاد البلد إلى ما هي عليه اليوم ولذلك فقد تأييد أغلب القوى السياسية حتى تلك التي ساندته في البداية، وفي محاولة لإضفاء شرعية على حكمه دعا إلى إجراء انتخابات برلمانية، ولكن الشعب قاطعها وعلّقت وكالة رويترز، "لقد أظهر التونسيون اهتماما قليلا بالتصويت نتيجة النظرة إليها كتتويج لسعي شخص واحد للانفراد بالسلطة في بلد تخلّص من الديكتاتورية عام 2011"، وتراوحت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات بين 8.8 في المئة كما قالت البيانات الرسمية في الأيام الأولى للانتخابات وبين 11.22 في المئة كما قالت في البيان النهائي، وهي في الحالتين نسبة مشاركة منخفضة بشكل قياسي. 

ولا تقتصر حالة الاستياء الشعبي في تونس على قيس سعيد وإجراءاته وقراراته غير المدروسة بل تشمل كذلك أحزاب المعارضة وخاصة الإسلامية ولذلك علّقت نسبة من التونسيين آمالها على الاتحاد العام للشغل الذي حافظ خلال الفترة الماضية على مواقف متوازنة، إلى أن أوضح أخيرا رفضه لهذه الانتخابات واصفاً إيّاها بأنها "بلا طعم أو لون وجاءت نتيجة دستور لم يكن تشاركياً ولا محل إجماع أو موافقة الأغلبية"، وبعد صدور النتائج قال الاتحاد إن "التدنّي الكبير في نسبة المشاركة يفقدها المصداقية والشرعية وأنه يعكس موقفاً شعبياً رافضاً لهذه الإجراءات وعزوفاً واعياً عن مسار متخبّط لم يجلب للبلاد سوى المزيد من المآسي والمآزق بدايةً من التغيير القسري للدستور باتجاه حكم رئاسي منغلق يشكّل تربة صالحة للاستبداد وحكم الفرد". 

ونسبة المشاركة المنخفضة هذه تذكّر بالإنتخابات البرلمانية الأخيرة في مصر حيث قالت الأرقام الرسمية وقتها إن نسبة المشاركة فيها كانت 28 في المئة ورغم أن هذه النسبة منخفضة ولكن جورج إسحق عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان قال إنه "جرى تبديل أصوات وإضافة عشرات آلاف الأصوات لبعض المرشحين بما يذكّر بانتخابات عام 2010 والتي كانت من أسباب الثورة"، بما يوحي بأن النسبة الحقيقية للمشاركين في الانتخابات المصرية لا تختلف كثيراً عن نسبة المشاركين بالانتخابات التونسية الأخيرة نتيجة معرفة الشعب بأنها انتخابات صوريّة هدفها إضفاء شرعية على أنظمة حكم بعيدة عن الديمقراطية. 

والذريعة الرئيسية التي يقدّمها هؤلاء الرؤساء للانفراد بالسلطة هو الخطر المزعوم للإسلاميين مع أن شعبية الإسلاميين قد انخفضت بشدة خلال السنوات الأخيرة ففي تونس تراجعت مقاعدهم في البرلمان من 89 مقعدا في أول برلمان منتخب عام 2011 الى 52 مقعدا في آخر انتخابات عام 2019 لأنهم لا يملكون حلولاً لمشاكل البلد فهم مجرّد حزب مكانه الطبيعي في المعارضة حيث يردّد شعارات غامضة ليس لها أي معنى مثل الإسلام هو الحل ويعتاش في مقاعد المعارضة على الأكسجين الذي تزوّده به أنظمة الحكم الفردية من خلال فشلها وممارساتها القمعية. 

والتذكير اليوم بحادثة البوعزيزي قد ينبّه الرؤساء الذين يحاولون العودة ببلادهم إلى الحكم الديكتاتوري أن الشعوب اليوم تعرف قوتها، وأن سبب صبرها هو أنها أكثر وعياً من حكامها وتريد تجنّب الفوضى، لأن الأوضاع الإقتصادية والمعيشية أصبحت أسوأ بما لا يقاس من أيام البوعزيزي، وأي انفجار يحدث في مثل هذه الظروف قد يحمل مخاطر جسيمة، وحتى لا يقع هذا الانفجار ربما من الأفضل لهؤلاء الحكّام الاستماع إلى ما قاله رئيس الاتحاد العام للشغل في تونس للرئيس قيس سعيد "لقد فشلتم فشلاً ذريعاً في إدارة البلاد ويجب العمل على خارطة طريق للإنقاذ"، لأن هذه الجملة يمكن أن تُقال لهم جميعا لأن انفرادهم في السلطة وقراراتهم غير المدروسة لم تؤدي سوى إلى مآس وأزمات لم يسبق لها مثيل. 
 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.