"قائمة نتانياهو للحكومة هي حقل ألغام مزروع على قياس الشرق الأوسط كله"
"قائمة نتانياهو للحكومة هي حقل ألغام مزروع على قياس الشرق الأوسط كله"

يمكن للمرء أن يختار ما يشاء من إسقاطات رمزية بالغة التكثيف على خلفية المشهد الذي كان يحيط الملك الأردني، عبدالله الثاني، وهو يجري مقابلته مع بيكي أندرسون لمحطة "سي إن إن" الأمريكية وقد كان اللقاء المدعم بتقارير كبسولية مصورة قد جرى تماما في موقع عماد المسيح، حيث المغطس على الجانب الأردني من نهر الأردن. 

الملك في هذه المقابلة التلفزيونية القصيرة، كان يشبه والده الملك الراحل إلى حد كبير في إرسال الإشارات والبرقيات السريعة بالدلالات. 

من حيث "البرية" التي كان "يوحنا المعمدان" يصرخ فيها وكانت أول مطالبه "المساواة بين جميع الأمم"، كان الملك الأردني يضع على صدره دبوسا أحمرا يمثل الراية الهاشمية، ويرسل برقياته عبر هذا النهر الصغير إلى اليمين الإسرائيلي الديني المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو، وهي برقيات ورسائل تعكس بلا شك هواجس الأردن وقلق الإقليم من قادم الأيام. 

لقد ورث الملك عن أبيه الراحل ذات العلاقة المتوترة مع نتانياهو، الذي عاد ليقود حكومة "تصعيد مواقف حادة" في إسرائيل مدججا بطاقم وزراء أضحى "جنرالات الجيش الإسرائيلي" أمامهم حمائم سلام! 

يرسل الملك رسالته الأكثر وضوحا بما مفاده أن الأردن جاهز للمواجهة كما هو جاهز للحوار، مناديا بالاندماج الإقليمي، الذي من مقومات نجاحه مساواة بين جميع الأمم، مدللا أن المعادلة الجديدة في الإقليم يجب اأن تكون مبنية على الاستثمار في النجاح، لأن نجاح أي طرف هو نجاح للطرف الآخر كما يرى الملك الأردني في رسالته "الميلادية" من تلك المقابلة وهي رؤية إقليمية صار يمكن تلمسها عبر مشاريع اقتصادية تكاملية تتصاعد يوما بعد يوم، وحسب الملك، وهو محق، فإن اندماج إسرائيل في تلك الرؤية الإقليمية المشتركة لا يمكن أن يكون دون وجود الفلسطينيين كذلك!  

ليس الملك وحده من يؤمن بانفجار وشيك قد يفضي إلى انتفاضة ثالثة، وهي انتفاضة مختلفة نوعيا عن سابقاتها لعدم وجود "أمل"، مما قد يؤدي فعلا إلى فوضى غير محسوبة النتائج، وهو ما يخشاه الجميع حتى في إسرائيل نفسها.

فبالتزامن مع صعود "اليمين المتطرف" إلى سدة الحكم في إسرائيل بدأ يعلو بوضوح صوت مخنوق من الوضع الراهن ومحمَّل بالقلق من مستقبل انهيار كل شيء دفعة واحدة، تيار من إسرائيليين يفكرون مثلما يفكر غيرهم بالإقليم بالمضي قدما في حياتهم مثل باقي الناس، ويدركون أن ذلك لا يمكن تحقيقه إلا إذا كان الفلسطينيون أيضا مثل باقي الناس، وهو ما يتطلب من الفلسطينيين أيضا إعادة ترتيب أوراقهم وبيتهم "وقياداتهم منتهية الصلاحية" بما يرتقي وتطلعات الإقليم كله. 

على الجانب الآخر من النهر، الأمور لا تبشر كثيرا بالخير أمام تشكيلة حكومة جاهزة لعدة حروب في يقينها الداخلي، ورغم تركيز الإعلام العربي والعالمي على شخصية ايتمار بن غفير الذي خطف الأضواء حتى من نتانياهو نفسه بتاريخه المليء بالبلطجة السياسية والخروج عن القانون بسلوكياته المتطرفة والإقصائية، إلا ان باقي تشكيلة حكومة نتنياهو ليست أقل خطرا من "داعشي متطرف" مثل بنغفير.

وقائمة نتانياهو للحكومة هي حقل ألغام مزروع على قياس الشرق الأوسط كله، فوزير المال في حكومة إسرائيل شخصية استيطانية متطرفة لا تؤمن بأي حل سياسي مع الفلسطينيين، بل يكرس بسلائيل سموتريش حياته لقضية واحدة يؤمن بها وهي زيادة الاستيطان والتي بحكم وظيفته سيكون طرفا في ملف إدارة المستوطنات وتوسعتها!

واليوم ومع حضوره في حقيبة حكومية يصبح مسؤولا عن خزينة إسرائيل ومخصصات الإنفاق فيها بكل سياساتها، مثله مثل أرييه درعي، وزير الداخلية (والصحة) عضو حركة شاس المتشددة والمدان بقضايا فساد مالي وتلقي رشاوٍ، لكنه سيكون وزير مالية إسرائيل القادم حسب اتفاق الائتلاف الحكومي بعد سنتين. 

وإذا أضفنا نتانياهو نفسه لقائمة "المشتبه بهم" في قضايا فساد مالي وانتهاكات قانونية جسيمة، فإن الشرق الأوسط "وليس الفلسطينيون وحدهم" أمام حكومة خارجين عن القانون، أو على الأقل لا تأبه بالقوانين. 

من هنا.. فإن تحذيرات الملك الأردني الدبلوماسية، قد لا تكون كافية لتنبيه الإسرائيليين أنفسهم، وقد انحاز مزاجهم العام الانتخابي إلى اختيار تلك التشكيلة المتطرفة من غلاة المتعصبين في إقليم يحاول أن يعيد تشكيل نفسه بروح تكاملية لا تستثني أحدا، وهي تشكيلة في المحصلة ترسل رسائلها الخاصة إلى "كتل التطرف المضادة" من فروع داعشية متعددة، للملمة ذاتها في مواجهة "أرماغيدونية" مدمرة للجميع. 

إن تلك الروح التكاملية التي بدأت تسود الإقليم تحتاج تكاملا سياسيا ودبلوماسيا يعمل على إسناد تلك الرسائل لتصل إلى الإسرائيليين لعل المزاج الانتخابي يتجه إلى مصلحتهم ومصلحة الإقليم قبل أن يصبح الوقت متأخرا على الجميع، دون استثناء. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.