Muslim women pray inside the 7th century Umayyad Mosque in Damascus, Syria, Wednesday, Oct. 3, 2018. President Bashar Assad…
نساء يؤدين الصلاة في الجامع الاموي التاريخي وسط العاصمة السورية دمشق

شكل رحيل مؤسِسة "شبكة النساء القُبيسيات" قبل عدة أيام، السيدة منيرة القُبيسي، مناسبة استثنائية لبروز "انسجام نادر" بين أقطاب النظام والمعارضة السورية، التي توافقت على نعي الراحلة وكيّل أشكال المديح لها ولمسيرتها الدعوية والتنظيمية.

ذلك التوافق الذي يدل على مجموعة من السمات الخاصة لشكل الحياة العامة داخل سوريا طوال عقود كثيرة مضت، والمتأت من التاريخ الأبعد لهذه الجهة الدعوية/النسوية، التي كانت من طرف محل قبول عمومي من مختلف المؤسسات و"زعماء" التيارات الدينية في البلاد، وهو أمر نادر الحدوث في تاريخ الحركات الدعوية والسياسية الدينية السورية، حيث كان زعماؤه يشبهون حالة زعامات الحارات الدمشقية القديمة، متنابذين فيما بينهم، بالرغم من الوفاق الإيديولوجي. كذلك فإن القبيسيات كُن مقبولات ومرحب بهن من قِبل أجهزة النظام السوري وتنظيمات المعارضة الإسلامية على حد سواء، وهو ما كان أكثر ندرة بدوره.

يفتح هذا الموقع المتفرد الذي شغله هذا التنظيم، سؤالا كبيرا حول ما تكنه من سمات ونزعات وآليات عمل، وما توفره من شروط ومناخات وتلبية لمجموعة من المصالح، تجعل منه قادرا على البقاء في هذا الموقع غير العادي، كجهة وحيدة "مقبولة من الجميع"، بالرغم من التناقضات السياسية والإيديولوجية الهائلة بين هؤلاء، خصوصا في مساحة مركزية مثل العاصمة دمشق، التي كانت مركزا لمحصلة التناقضات السياسية والاقتصادية والإيديولوجية والأهلية في البلاد.

يمكن استنباط الإجابة على ذلك من عدة مصادر أولية، متأتية بمجموعها من جذر وهوية هذا التنظيم الدعوي/النسوية، الذي لغير صدفة انطلق منذ أواسط الستينات، بالذات في العاصمة دمشق، وانتشر في أوساط الطبقة العليا والمحافظة من أبناء المدينة، وعبر نوعية خاصة من العلاقات والتراتبية التنظيمية، ودوما حسب قائمة من الخطابات والإيديولوجيات والرؤى الدينية. 

فالفترة التاريخية التي أنبلج فيها التنظيم أواسط الستينات، كانت بالضبط المرحلة التي أنتهى فيها "عصر التحديث المحلي" في سوريا، بالذات في مدينة دمشق. تلك المرحلة التحديثية التي كانت قد انبعثت في عقد الثلاثينات من القرن المنصرم، أثناء سنوات الاستعمار الفرنسي، وطالت طبقات واسعة من أبناء المدينة، وكانت الديمقراطية البرجوازية التي شهدتها البلاد تعبيراً وانعكاساً عنها. لكنها انتهت فعلياً مع الانقلاب العسكري لحزب البعث عام 1963، الذي أدخل سوريا في مرحلة كانت مزيجاً من العسكرة والبعثنة الإيديولوجية للحياة العامة وصراع الطوائف.

ضمن ذلك السياق، فإن الحركة القُبيسية، مثل غيرها من التنظيمات الدينية التي تنامت أثر ذلك، كانت واحدة من أدوات وتعابير تراجع طبقات مدينة دمشق الاجتماعية "نحو الوراء"، عما كانت تسير نحوه من تحديثه قبل ذلك. 

لكنه أساساً، وعبر ذلك، كانت الأداة التي تمنح عشرات الآلاف من نساء الطبقة المدنية الثرية أدوات الوعي الأعلى في الحياة، كالثقافة العامة وأدوات الخطاب ونوعية السلوك ومعنى الحياة والرؤية للذات. فأبناء هذه الطبقة، التي من المفترض أن يكونوا "البرجوازية المحلية العليا"، ومع فقدانهم لسياق التحديث ومؤسسات الحريات العامة، الاجتماعي والثقافية والسياسية على حد سواء، صاروا متلهفين لمثل تلك الشبكات وإيديولوجياتها وخطاباتها، التي تكاثرت مع زيادة مستويات الشمولية السياسية وتراجع اندماج سوريا مع الكل العالمي.

لكن تناميها تنظيمياً في أواسط "العائلات الدمشقية الرئيسية"، كان علامة وردة فعل أخرى على الانفجار السكاني للمدينة طوال العقدين اللاحقين. فالمدينة التي كانت بقرابة نصف مليون ساكن فحسب في أواسط الستينات، ومعزولة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً حتى عن ريفها الأقرب، وجدت نفسها بعد سنوات قليلة غارقة في بحر مؤلف من ستة ملايين ريفي، مهاجر إليها من مختلف أصقاع البلاد. 

كانت الشبكة القبيسية منصة كبرى للتلاقي العائلي والثقافي لأبناء المدينة الأكثر محافظة على المستوى الاجتماعي. هؤلاء الذين كانوا مشغولي البال بتبدد مجتمعهم المحلي وتحطم نوعية التراتبيات العائلية والمهنية والحاراتية فيما بينهم، إلى جانب تفكك عالم القيم الذي كان يشكل الروابط فيما بينهم من قبل.

فالحركة القبيسية، مثل مختلف أنواع التنظيمات الأهلية في الأوساط المحلية، لكن الدينية منها بالذات، كانت بمثابة عائلة كبرى، تتعارف فيه السيدات وتتبادلن الزيارات والعلاقات العائلية النسوية، تحصل في ظلالها تلك النوعية من الزيجات المحلية المحافظة، القائمة على توافق الأهل، إلى جانب بعض أشكال المساندة النفسية والدعم الاقتصادية والمؤازرة الاجتماعية التي كُن يتبادلنها.

في مستوى أعلى، فإن بقاء القبيسيات كمنظمة شبه احتكارية لأبناء الطبقات المجتمعية الأكثر ثراء وفاعلية في الفضاء العام متأت بدوره مما حدث مع أغلب أبناء العائلات الدمشقية هذه، وعلى مراحل متعاقبة، منذ أواسط الستينات. 

فخروج هؤلاء من الحياة السياسية والهيكل السلطوي في البلاد، ترافق مع توافق مُضبط مع السلطة الحاكمة، وإن غير معلن، بالذات مع الرئيس السابق حافظ الأسد: قائم على متاركة متبادلة، بحيث يتخلى هؤلاء عن أية نزعة أو مطالب أو حضور سياسي، مقابل أن يؤمن لهم حضور ونفوذ اقتصادي متمايز في عالم الأعمال والتجارة في البلاد. 

ضمن ذلك الفضاء، صار أعضاء هذه الطبقة يملكون شبكة كبرى من المصالح والمنافع الاقتصادية المشتركة، استطاع تنظيم مسموح به مثل "شبكة القبيسيات" أن يكون غطاء لخلق التواصل وتبادل العلاقات بين أعضاء تلك الطبقة، وإن عن طريق علاقات "الزوجات"، طالما كانت البلاد في حالة "منع عام" لأية تنظيمات اقتصادية أو سياسية عمومية، مثل الأحزاب والنقابات واتحادات رجال الأعمال. 

فأعضاء التنظيم، بالذات أفراد الطبقات العليا منه، كانوا يسيرون شبكة سائلة من العلاقات والمصالح والمنافع المتبادلة، ويؤمنون مناخ من الطمأنينة فيما بينهم، تشبه تلك نوادي العلاقات النخبوية في مختلف بلدان العالم، التي قد ترى فيها فناناً مشهوراً إلى جانب سياسي سلطوي ورجل دين ولاعب رياضي على نفس الطاولة. فالكل بحاجة الكل، والكل يعرف ذلك ويتواطؤ معه وحسبه، كأعضاء في أعلى هرم المجتمع.

بجمع كل ذلك، يُكتشف بأن الشبكة كانت استجابة لظرف المدينة المركزية في البلاد، ومنبثقة من باطن الوقائع السورية. لأجل ذلك، فإنها كانت مناسبة لطرفي المزاحمة، الطبقات المجتمعية العليا من أبناء دمشق، الذين خرجوا من الحياة السياسية، فتآلفوا على مثل هذه التنظيمات. الأمر نفسه كانت تحتاجه السلطة الحاكمة، التي كانت تتلهف لابتداع أنواع من "التعويض الآمن" لأبناء هذه الطبقة، ليقبلوا بالبقاء الدائم خارج السلطة الحقيقية الحاكمة للبلاد. فجميع هؤلاء كانوا القمة العليا من "هرم القوة" في البلاد، وصراعهم السياسي على السلطة في البلاد طوال السنوات الماضية، لا يعني بأي شكل التاريخ المشترك المديد الذي كان بينهم، وغالباً سُيستعاد مرة أخرى عما قريب. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.