القوة الناعمة بدون القوة الصلبة مثل فريق كرة قدم بدون حارس مرمى
القوة الناعمة بدون القوة الصلبة مثل فريق كرة قدم بدون حارس مرمى

كان من أهم معالم النظام الدولي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية وضع قيود على حجم وتسليح جيوش ألمانيا واليابان حتى لا تعود للظهور الروح العسكرية لدولتين لهما تاريخ عسكري طويل حافل بالحروب والغزوات، ففي ألمانيا بعد القيود الشديدة التي فُرضت عليها بعد الحرب تمّ السماح لها بجيش محدود العدد قوامه 370 ألف شخص على أن تعتمد في حمايتها على الوجود العسكري الأميركي، وكان البرلمان الألماني نفسه يعيق التوسّع في الجيش من ناحية العدد أو التسليح عبر تقديم تمويل هزيل له لأن تركيز ألمانيا بعد الحرب كان على بناء معجزتها الاقتصادية التي حققت الازدهار والرخاء لشعبها. 

حتى أن أحد وزراء الدفاع في بولندا قال قبل بضع سنوات "لقرون ظل قلقنا الأكبر هو امتلاك ألمانيا لجيش قوي بينما أكثر ما يُخيفنا الآن الضعف العسكري الألماني"، وحتى قال رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن قبل غزو أوكرانيا ببضعة أشهر "نحن سادة القوة الناعمة ولكنّ القوة الناعمة بدون القوة الصلبة مثل فريق كرة قدم بدون حارس مرمى"، ووصلت الشكوى من انخفاض ميزانية الدفاع في ألمانيا إلى الولايات المتحدة عبّر عنها الرئيس الأميركي السابق ترامب، لماذا تتكفّل أميركا بتكاليف الدفاع عن بلد ثري مثل ألمانيا؟ 

ولعلّ السبب الرئيسي في ذلك شعور ألمانيا بالأمان لأنها عضو في الإتحاد الأوروبي المحيط بها من جميع الجهات تقريباً ولأن علاقاتها الاقتصادية قوية مع روسيا فحجم التبادل التجاري معها تجاوز خمسين مليار دولار مع وجود أكبر سفارة ألمانية في الخارج في موسكو برفقة أكبر معهد ثقافي ألماني "غوته"، مع إعطاء الروس منح دراسية سخيّة، ربما لأن ألمانيا كانت تشعر بعقدة الذنب على الغزو النازي لروسيا أو لأنها كانت تتأمّل بإسراع عملية انضمام روسيا للفضاء الأوروبي ثقافياً واقتصاديا وفي مرحلة لاحقة سياسياً بحيث يتم تجاوز ذكريات حروب الماضي المؤلمة كما حدث مع بقية دول أوروبا. 

ولكن كل ذلك تغيّر دفعة واحدة عند غزو بوتين لأوكرانيا لأنه استهدف احتلال بلد أوروبي في انتهاك للنظام الدولي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، كما أن المبرّرات التي قدّمها بوتين في غزوه كانت اعتبار دول كثيرة في شرق أوروبا جزءاً تاريخياً من روسيا الكبرى بما يشير إلى أنه لن يكتفي بأوكرانيا بل سيتبعها في حال انتصاره بدول أخرى، وبذلك لم يعد من خيار أمام ألمانيا سوى العمل على بناء جيش قوي قادر على الدفاع عنها وعن حلفائها الأوروبيين، فرفعت إنفاقها العسكري لأكثر من الضعف حتى "يعود الجيش الألماني قوة كبرى فاعلة دولياً" حسب تعبير أحد القادة الألمان. 

وتقوم الخطة الألمانية على مسارين مُتداخلين الأول هو شراء طائرات أف 35 وطائرات هليكوبتر ثقيلة وتحديث صواريخ الباتريوت والطائرات بدون طيار والسفن الحربية لتعزيز القدرات العسكرية في أسرع وقت، والثاني هو تطوير الصناعات العسكرية الألمانية حتى تُنتج بنفسها كل أسلحتها، ولدى ألمانيا قاعدة صناعية قادرة على تحقيق ذلك بل والتفوّق فيه. 

كما ارتكب بوتين والحلقة المحيطة به خطيئة أخرى وهي التهديد المُتكرر باستخدام الأسلحة النووية، ووصل الأمر بألكسندر دوغن "فيلسوف بوتين" إلى حد التهديد بإنهاء العالم كلّه إذا خسرت روسيا الحرب، ورغم أن هذا الكلام غير واقعي ولا يُخيف أحداً ولكنه يوضّح العقلية التي تحكم الكرملين حالياً. 

إذ بعد انسحاب بريطانيا من الإتحاد الأوروبي لم يبق سوى دولة نووية واحدة هي فرنسا، وسياسة فرنسا الحذرة والمهادنة نسبياً لروسيا توحي بأن الاعتماد على فرنسا لمنع روسيا من استخدام أسلحة نووية غير مقنع، كما أن رهن حياة الشعب الألماني بالمظلّة النووية الأميركية في الوقت الذي تنمو فيه الروح الانعزالية عند قسم كبير من السياسيين الأميركيين قد لا يكون مقبولاً عند غالبية الشعب الألماني، خصوصاً لأن ألمانيا لديها كل الإمكانيات والموارد لصنع هذا النوع من الأسلحة الذي هو بالأساس من اكتشاف علمائها، وفي حال وجود تهديدات نووية حقيقية فلن تنتظر الحكومة الألمانية موافقة أحد لحماية شعبها. 

أمّا من ناحية اليابان فقد نصّت اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الثانية على أن يكون لديها قوات دفاع ذاتي لا يتجاوز عددها ثلاثمائة ألف تقتصر مُهمتها على الدفاع عن اليابان وأن لا يتجاوز مدى أسلحتها مئتي كيلومتر أي لا يمكن أن تطال أي بلد آخر، لكن في السادس عشر من ديسمبر 2022 غيّرت اليابان عقيدتها العسكرية إلى "إستراتيجية الأمن القومي الجديدة"، وفيها شرحت أن سبب التغيير هو أن اليابان تواجه بيئة عدائية من روسيا والصين وكوريا الشمالية. 

وأن روسيا انتهكت النظام الدولي المستقر منذ الحرب العالمية الثانية بغزوها لأوكرانيا وهذا من الممكن تكراره في منطقة المحيط الهادي مثل احتمال غزو الصين لتايوان، ويضاف إلى ذلك وجود خلاف حدودي بين اليابان وروسيا حول جزر الكوريل التي احتلتها روسيا من اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. وكذلك هناك جزر سينكاكو اليابانية التي تدّعي الصين ملكيّتها وتهدّد باحتلالها، وبهذا فقد اعتبرت اليابان احتلال الصين لتايوان تهديداً مباشراً لها، كما لا يُمكن تجاهل كوريا الشمالية التي أطلقت في العام الماضي لوحده قرابة مئة صاروخ على البحار المحيطة باليابان. 

ولذلك وضعت اليابان كل إمكانياتها لمواجهة هذه الأخطار، وكانت خطوتها الأولى إعادة بناء قواتها المسلحة بما يسمح لها بشن هجوم مضاد على أي طرف يعتدي عليها أو على حلفائها وطلبت في سبيل ذلك صواريخ كروز يصل مداها إلى 1600 كلم كما تعاقدت على شراء طائرات أف 35 الأميركية واتفقت مع بريطانيا وإيطاليا على إنتاج طائرات متطورة وضاعفت في سبيل ذلك إنفاقها العسكري لمئة مليار دولار سنوياً.  

كما أضاف الوضع الدولي الجديد الذي يحمل تهديداً نووياً لليابان من قبل روسيا والصين وكوريا الشمالية دافعاً لليابان لتطوير قدراتها النووية، ولدى اليابان بنية تحتية فريدة قادرة على بناء أسلحة نووية في أي وقت تشاء لأنها تمتلك مخزوناً كبيراً من البلوتونيوم "45.7 طن" يكفي لصنع ستة آلاف قنبلة ذرية حسب تقدير هيئة الطاقة الذرية الدولية، وعودة الجيش الياباني للتسلّح وللساحة الدولية ليس بالأمر البسيط فلهذا البلد تقاليده وانضباطه وروحه القتالية الاستثنائية التي على الجميع أن يحسب حسابها. 

ففي عام 1904 عندما وقعت الحرب بين روسيا واليابان توقّع الجميع هزيمة اليابان ولكن ما حدث أن اليابان انتصرت على روسيا في ما أُعتبر وقتها أول انتصار في العصر الحديث لقوّة آسيوية على قوة أوروبية، وفي هذه الحرب شاهد الروس روح قتالية استثنائية عند الجنود اليابانيين أدخلت الخوف إلى قلوبهم، أما الصينيين وبقية شعوب شرق آسيا فهم يعرفون أكثر من غيرهم ماذا يعني إحياء الجيش الياباني.  

إعادة بناء جيوش ألمانيا واليابان سيؤدي إلى تغير جوهري في موازين القوى العالمية وسينتج عنه عالم جديد، ولكنّ هذا العالم سيكون مختلفاً تماماً عن ما يروّج له الإعلام العربي ليلاً نهاراً بأنه عالم مُتعدّد الأقطاب تكون فيه الصين وروسيا قادرتين على مواجهة الغرب، بل سيكون عالم تملك فيه أوروبا واليابان قوتهما العسكرية الخاصّة التي توازي قوتهما الاقتصادية، وستكون هذه القوى الجديدة جزءاً من تحالف كبير يضم أنظمة ديمقراطية تجمعها قيم مشتركة تقوم على الحرية الفردية والسياسية والاقتصاد الحر واحترام حقوق الإنسان. 

وفي هذا العالم الجديد ستتوقّف الصين عن تهديد جيرانها ويمكن تلمّس ذلك في دعوة وانغ بي أكبر دبلوماسي صيني في بداية العام الجديد الولايات المتحدة "للحوار بدل المواجهة وإعادة العلاقة الأميركية الصينية إلى المسار الصحيح للسلام والاستقرار"، كما سيتوقف فيه ديكتاتور يتحكم بشعب جائع في كوريا الشمالية عن إلقاء صواريخ في البحر وإيهام شعبه بأنه بهذه الاستعراضات الفارغة يُحقق انتصارات، وهو عالم قد يُحاسب فيه الشعب الروسي من دفع بعشرات آلاف الشباب الروس للموت في مغامرة غير محسوبة.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.