صورة لشجرة عيد الميلاد في دبي بالإمارات في 19 ديسمبر 2022
الجدل يتجدد عند كل مناسبة دينية.

بات من شعائر كل عام أن نشهد نقاشات مثيرة للجدل حول مسألة تهنئة غير المسلمين بأعيادهم (وخاصة عيد ميلاد المسيح ورأس السنة)، حيث نجد مجموعتين متعارضتين تخوضان معركة افتراضية هي أشبه بحرب البسوس.

المجموعة الأولى: تحاول جهدها لإثبات حرمة التهنئة، فتحشد الأحاديث والآيات القرآنية والتفاسير المعتمدة من المذاهب الفقهية الـ 4 التي تريد تلك المجموعة من خلالها إثبات ليس فقط عدم جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، بل تكفير من يقوم بذلك. 

أما المجموعة الثانية، فتسعى لإثبات عكس ما تريد إثباته المجموعة الأولى فتستحضر النصوص التي تحث على البر والإحسان لأهل الكتاب، مؤكدة أن الدين الإسلامي أباح الزواج منهم ويستدعي الملاطفة معهم وتهنئتهم ولكي تثبت تلك المجموعة حجتها، تقوم بالاحتفال بعيد الميلاد ورأس السنة من خلال صنع تزيين المنازل وحضور المناسبات وإعداد الطعام التقليدي في تلك المناسبات، وتشغيل أغاني الميلاد بالإضافة إلى ارتداء زي تلك الأعياد.

وعادة، يسعى المراقب الموضوعي للمجموعتين إلى تطبيق ما يمليه عليه ضميره من مكارم الأخلاق التي تعطي الصورة الحسنة لدينه وبلاده، والدين الإسلامي، الذي يدعو إلى التسامح والتعايش والمحبة والسلام، من غير المنطقي أن يدعو إلى التضييق على معتنقي أي ديانة أخرى. فالآية 62 من سورة البقرة تقول: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ".

وقد ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: "أن الناس قسمان إما أخ لك في الدين أو أخ لك في الإنسانية،" فمن أين أتوا هؤلاء القاسية قلوبهم بكل ذلك الغل على معتنقي الأديان الأخرى وبتحريم التهنئة بأعيادهم وتكفير من يقوم بذلك وكأنه ارتكب جريمة، علما بأن أصحاب الأديان الأخرى يقومون بتهنئة المسلمين بأعيادهم؟

ويا ليت سمعنا إدانات وغضب من المجموعة الأولى على إصدار حركة طالبان قراراً بحظر التعليم الجامعي للفتيات والنساء، كما نسمع التكفير والجدل والغضب بخصوص التهنئة بأعياد غير المسلمين. مع العلم أن الموضوع الأول أهم بكثير من الثاني نظراً لأهمية التعليم للدين الإسلامي، فأولى الآيات التي أنزلت على نبينا محمد: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ". 

فقد قال الله عز وجل الإنسان ولم يقل الرجل لوحده ولم يقل ألقي المرأة في غياهب الجب حيث تكون حيوانا لا يستطيع أن يعد جيلاً طيب الأعراق، كما قال حافظ إبراهيم: "الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها · أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ". لكن للأسف، لم يحرك قرار حركة طالبان ساكناً عند المجموعة الأولى، كما تشعل غضبها دوماً مسألة تهنئة غير المسلمين بأعيادهم.

ولكي يقطع الشك باليقين حتى لا تغالي المجموعة الأولى بتكفيرها لمن يريد التهنئة والثانية لا تبالغ بالاحتفالات أكثر من أصحاب الديانات أنفسهم، أكد شيخ الأزهر الشريف، الإمام الدكتور أحمد الطيب، ورئيس هيئة علماء المسلمين، الشيخ محمد العيسى، جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم. 

وأوضح الشيخ العيسى، خلال برنامج "في الآفاق" على قناة "أم.بي.سي"، أنه لا يوجد نص شرعي يمنع تهنئة غير المسلمين بـ "الكريسماس" وغيره من الأعياد الأخرى. كما لفت الانتباه إلى أن تبادل التهاني مع غير المسلمين، صدرت بجوازها فتاوى من علماء كبار في العالم الإسلامي، ولا يجوز الاعتراض على أي مسألة تتعلق باجتهاد شرعي. 

وأشار العيسى إلى أن الإسلام يبيح أكل طعام "أهل الكتاب"، وهي الذبائح، ولم يبح طعام غيرهم وهذا لا يعني الإقرار بدينهم. كما أوضح الشيخ العيسى أن الهدف من هذه التهاني هو تعزيز التعايش والوئام في عالم هو اليوم أحوج ما يكون لذلك. 

لكن الذي يذهلني لماذا عندما يصرح شيوخ دين تنويريين مثل فضيلة الشيخ محمد العيسى والإمام الدكتور أحمد الطيب بفتاوى وتصاريح تدعو إلى التسامح والتعايش تقبل على مضض أو أحيانا يتم رفضها واستنكارها من قبل المسلمين وخاصة من المجموعة الأولى، في حين أن الفتاوى التكفيرية يتم تقبلها بأريحية وبسرعة؟ فهل هناك نزعة إلى الغلو والتعصب عند تلك المجموعة الأولى هي التي تجعلها تميل إلى تلك الفتاوى التكفيرية؟ لقد كانت إحدى الردود على شيخ الأزهر في مواقع التواصل الاجتماعي: "هو حضرتك درست آية أو قرأت آية عن الإسلام علشان تقولنا إن تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد حلال؟!" وبالرغم أن تصاريح وفتاوى الشيخين تبعث الأمل إلا أن الكثير من الردود تشعرنا أن المشوار طويل في هذه المنطقة لتقبل فكرة التعايش والتسامح وفكرة أن "الملك لله في الأعالي وفي الأرض السلام وفي الناس المحبة".

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.