بات من شعائر كل عام أن نشهد نقاشات مثيرة للجدل حول مسألة تهنئة غير المسلمين بأعيادهم (وخاصة عيد ميلاد المسيح ورأس السنة)، حيث نجد مجموعتين متعارضتين تخوضان معركة افتراضية هي أشبه بحرب البسوس.
المجموعة الأولى: تحاول جهدها لإثبات حرمة التهنئة، فتحشد الأحاديث والآيات القرآنية والتفاسير المعتمدة من المذاهب الفقهية الـ 4 التي تريد تلك المجموعة من خلالها إثبات ليس فقط عدم جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، بل تكفير من يقوم بذلك.
أما المجموعة الثانية، فتسعى لإثبات عكس ما تريد إثباته المجموعة الأولى فتستحضر النصوص التي تحث على البر والإحسان لأهل الكتاب، مؤكدة أن الدين الإسلامي أباح الزواج منهم ويستدعي الملاطفة معهم وتهنئتهم ولكي تثبت تلك المجموعة حجتها، تقوم بالاحتفال بعيد الميلاد ورأس السنة من خلال صنع تزيين المنازل وحضور المناسبات وإعداد الطعام التقليدي في تلك المناسبات، وتشغيل أغاني الميلاد بالإضافة إلى ارتداء زي تلك الأعياد.
وعادة، يسعى المراقب الموضوعي للمجموعتين إلى تطبيق ما يمليه عليه ضميره من مكارم الأخلاق التي تعطي الصورة الحسنة لدينه وبلاده، والدين الإسلامي، الذي يدعو إلى التسامح والتعايش والمحبة والسلام، من غير المنطقي أن يدعو إلى التضييق على معتنقي أي ديانة أخرى. فالآية 62 من سورة البقرة تقول: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ".
وقد ذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: "أن الناس قسمان إما أخ لك في الدين أو أخ لك في الإنسانية،" فمن أين أتوا هؤلاء القاسية قلوبهم بكل ذلك الغل على معتنقي الأديان الأخرى وبتحريم التهنئة بأعيادهم وتكفير من يقوم بذلك وكأنه ارتكب جريمة، علما بأن أصحاب الأديان الأخرى يقومون بتهنئة المسلمين بأعيادهم؟
ويا ليت سمعنا إدانات وغضب من المجموعة الأولى على إصدار حركة طالبان قراراً بحظر التعليم الجامعي للفتيات والنساء، كما نسمع التكفير والجدل والغضب بخصوص التهنئة بأعياد غير المسلمين. مع العلم أن الموضوع الأول أهم بكثير من الثاني نظراً لأهمية التعليم للدين الإسلامي، فأولى الآيات التي أنزلت على نبينا محمد: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ".
فقد قال الله عز وجل الإنسان ولم يقل الرجل لوحده ولم يقل ألقي المرأة في غياهب الجب حيث تكون حيوانا لا يستطيع أن يعد جيلاً طيب الأعراق، كما قال حافظ إبراهيم: "الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها · أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ". لكن للأسف، لم يحرك قرار حركة طالبان ساكناً عند المجموعة الأولى، كما تشعل غضبها دوماً مسألة تهنئة غير المسلمين بأعيادهم.
ولكي يقطع الشك باليقين حتى لا تغالي المجموعة الأولى بتكفيرها لمن يريد التهنئة والثانية لا تبالغ بالاحتفالات أكثر من أصحاب الديانات أنفسهم، أكد شيخ الأزهر الشريف، الإمام الدكتور أحمد الطيب، ورئيس هيئة علماء المسلمين، الشيخ محمد العيسى، جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم.
وأوضح الشيخ العيسى، خلال برنامج "في الآفاق" على قناة "أم.بي.سي"، أنه لا يوجد نص شرعي يمنع تهنئة غير المسلمين بـ "الكريسماس" وغيره من الأعياد الأخرى. كما لفت الانتباه إلى أن تبادل التهاني مع غير المسلمين، صدرت بجوازها فتاوى من علماء كبار في العالم الإسلامي، ولا يجوز الاعتراض على أي مسألة تتعلق باجتهاد شرعي.
وأشار العيسى إلى أن الإسلام يبيح أكل طعام "أهل الكتاب"، وهي الذبائح، ولم يبح طعام غيرهم وهذا لا يعني الإقرار بدينهم. كما أوضح الشيخ العيسى أن الهدف من هذه التهاني هو تعزيز التعايش والوئام في عالم هو اليوم أحوج ما يكون لذلك.
لكن الذي يذهلني لماذا عندما يصرح شيوخ دين تنويريين مثل فضيلة الشيخ محمد العيسى والإمام الدكتور أحمد الطيب بفتاوى وتصاريح تدعو إلى التسامح والتعايش تقبل على مضض أو أحيانا يتم رفضها واستنكارها من قبل المسلمين وخاصة من المجموعة الأولى، في حين أن الفتاوى التكفيرية يتم تقبلها بأريحية وبسرعة؟ فهل هناك نزعة إلى الغلو والتعصب عند تلك المجموعة الأولى هي التي تجعلها تميل إلى تلك الفتاوى التكفيرية؟ لقد كانت إحدى الردود على شيخ الأزهر في مواقع التواصل الاجتماعي: "هو حضرتك درست آية أو قرأت آية عن الإسلام علشان تقولنا إن تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد حلال؟!" وبالرغم أن تصاريح وفتاوى الشيخين تبعث الأمل إلا أن الكثير من الردود تشعرنا أن المشوار طويل في هذه المنطقة لتقبل فكرة التعايش والتسامح وفكرة أن "الملك لله في الأعالي وفي الأرض السلام وفي الناس المحبة".