الملك عبدالله
الملك عبدالله بعث بـ"رسائل تحذيرية" إلى الحكومة الإسرائيلية الجديدة | Source: REUTERS

من موقع عُمّاد المسيح "المغطس" تعمّد العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، أن يبعث رسائله وتحذيراته لقادة أكثر حكومة متطرفة في تاريخ إسرائيل.

ومع احتفال العالم بعيد الميلاد المجيد، وحلول رأس السنة كانت قناة "سي إن إن" الأميركية تبث الحوار الذي أجرته، الإعلامية بيكي أندرسون، مع الملك الأردني، وقد بدا فيه أقل دبلوماسية، وأكثر حزما على التصدي، والمواجهة.

ولم يتردد بالقول: "إذا أراد جانب أن يفتعل مواجهة معنا، فنحن مستعدون جيدا"، وأكمل "ننظر إلى النصف المليء من الكأس، وفي المقابل لدينا خطوط حمراء، وإذا أراد أحد تجاوزها، فسنتعامل مع ذلك".

وبعد أيام على حديث الملك كانت  وزارة الخارجية الأردنية تستدعي على عجل السفير الإسرائيلي في عمّان، وتُسلمه رسالة احتجاج على اقتحام وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، لباحات المسجد الأقصى، تتضمن طلبا مشددا بالامتناع عن أي إجراءات من شأنها المساس بحرمة الأماكن المقدسة، ووضع حد لمحاولات تغيير الوضع التاريخي والقانوني القائم، والتأكيد أن المسجد الأقصى "الحرم القدسي" الشريف بكامل مساحته 144 دونما مكان عبادة خالص للمسلمين.

وقاحة، وعدوانية الوزير بن غفير، الذي أدين بالتحريض على العنصرية، لم تكن مفاجئة، ومستغربة، وكل المعلومات المتسربة تؤكد أنها تمت بتنسيق مع رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، ولهذا فإن رئيس حكومة إسرائيل السابق يائير لابيد يُعلق على الحدث - الذي استنكرته أكثر دول العالم – "حتى يقضي بن غفير 13 دقيقة في الحرم القدسي وضعنا في مواجهة مع نصف العالم، وهذا ما يحدث عندما يضطر رئيس وزراء ضعيف لتسليم المسؤولية لأكثر شخص غير مسؤول في الشرق الأوسط".

حديث العاهل الأردني أبدى رسالة استباقية لمواجهة الخروقات الإسرائيلية المتوقعة، وهو بشكل صريح يُذّكر العالم الغربي على وجه التحديد أن الأردن كان ملاذا وحاميا للمسحيين في الأماكن المقدسة في فلسطين باعتباره الوصي على المقدسات، وأن هذه الحماية امتدت حين استهدفتهم "داعش" في العراق وسوريا.

الشرعية الدينية التي يبرزها الملك عبد الله باختياره لموقع "المغطس" لتصوير اللقاء، ويعد من أكثر الأماكن قدسية للديانة المسيحية، لا تنفصل عن قراءة للمخاطر إذا اندلعت انتفاضة ثالثة، حيث ستؤدي برأي العاهل الأردني إلى انهيار كامل قابل للاشتعال، وهو لا يُدير الظهر بالكامل رغم المخاوف، والهواجس الأردنية منذ الانتخابات الإسرائيلية، وما تبعها من تشكيل لحكومة نتانياهو، بل يُعيد طرح التكامل الاقتصادي كحل لكسر الحواجز.

بعد تشكيل حكومة نتانياهو التي تضم وزراء بعضهم أدين بقضايا فساد، وآخرين منتمين لتنظيمات متطرفة انشغلت النخب السياسية في عمّان بالإجابة على أسئلة المستقبل، والأضرار التي يمكن أن تلحق في الأردن، ونوقش أكثر من سيناريو، أغلبها ترصد أخطاراً محدقة بالبلاد.

أول السيناريوهات التي بدأ تطبيقها بالفعل استهداف المسجد الأقصى، وما فعله الوزير بن غفير توطئة لأفعال أكثر تطرفاً، وهذا يضع الأردن في المواجهة، ويفرض عليه اتخاذ إجراءات، وتدابير أكثر حزما، وشدة من رسالة احتجاجية ينقلها سفير الاحتلال لحكومته.

لا أعتقد أن نتانياهو الذي تحتمي حكومته بالمتطرفين في وارد الإنصات لأصوات الاستنكار والتنديد الدولية، واقتحام الأقصى سيتبعه التوسع في الاستيطان في أراضي الضفة الغربية، وكل الحديث عن فرص حل الدولتين سيكون كلاماً في الهواء.

ويُحتم ذلك على الأردن أن يقرر كيفية التعامل مع المشهد الذي يمضي نحو الاحتقان والانهيار، ويجيب عن أسئلة استراتيجية، ومصيرية، مثل: ما هو مستقبل عملية السلام برمتها؟، وهل بات من الضروري مراجعتها؟، وكيف يمضى في مشاريع حيوية بالتعاون مع إسرائيل كتبادل الكهرباء مع الماء، وإسرائيل تضع السكين على رقبته؟.

ولا يتوقف سيل الأسئلة المُقلقة، ويتقدمها؛ كيف سيحتوي الشارع الغاضب بسبب الأزمات الاقتصادية، هل سيضطر إلى اعتبار السفير الإسرائيلي "غير مرغوب به"، أو يعلن تجميد اتفاقية "وادي عربة" للسلام إذا كان هناك صعوبة، وربما استحالة في إلغائها.

يرى الأردن أن اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة احتمال وارد في ضوء التصعيد الإسرائيلي، وخاصة إذا استمر المساس بوضع القدس، والمسجد الأقصى، وإذا ما اندلعت الانتفاضة مع ظهور تشكيلات عسكرية فلسطينية "عرين الأسود"، و"كتيبة جنين"، فإن مآلات انهيار السلطة مطروحة، وهي التي تحتضر منذ سنوات سياسيا، واقتصاديا، وهذه المناخات ستنتقل تداعيات شررها إلى الأردن حكما، وبالتالي الانفجارات، وحالة الغضب ستزداد، وستُشكل عامل ضغط على الحكومة، ومؤسسات الدولة.

يُدرك الأردن مخاطر ذهاب المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف، فهو ينتخب قيادة سياسية لا تؤمن بعملية السلام إطلاقا، بل تريد التوسع، وضم الضفة الغربية، وتهجير الفلسطينيين، ويعرف أن وجود دولة فلسطينية قابلة للحياة أصبح شعارا غير قابل للتطبيق، وحتى فكرة الدولة الواحدة مستحيلة في ظل نظام عنصري.

وتتزايد المخاوف القديمة المتجددة من فكرة "الترانسفير" للفلسطينيين نحو الأردن، لأن القيادة المتطرفة تسعى، وتضغط على عمان لاستيعاب السكان الفلسطينيين في الجغرافيا الأردنية، ومشاريع الفدرالية، والكونفدرالية التي تُناقش في الغرف المظلمة تذهب إلى أن تضع الدبابة الأردنية في مواجهة الفلسطينيين مكان الدبابة الإسرائيلية.

إسرائيل التي وقعت اتفاقية سلام مع الأردن قبل ثلاثة عقود ليست هي إسرائيل التي تحكمها الآن أكثر الأحزاب تطرفا، فيهودية الدولة مقدمة على ديمقراطيتها التي انسحبت للهامش، وأحزابها الدينية كل يوم تتصهين أكثر، أما أحزابها العلمانية التي توارت، واضمحلت فهي تختبئ تحت مظلة الأحزاب الدينية، وباتت تقتبس من أدبياتها.

الأولويات في إسرائيل تبدلت دون مواربة، وأحاديث السلام هامشية، ومُفصلة على مقاسهم التوسعي، وأسرلة القدس تحتل الصدارة، وإعادة ضم أراضٍ في الضفة الغربية صار ممارسة علنيه لا سرية، وذلك بما يدعم الاستيطان ويغذيه، والتهجير للفلسطينيين أضحى ضمن مخططات قيد التنفيذ، واستهداف فلسطينيي الداخل بحملات عنصرية واقع يحدث كل يوم.

لا يستطيع الأردن أن يتكيف مع توجهات، ومتطلبات الحكومة الإسرائيلية، فأجندتها من ألفها إلى يائها تعصف، وتُهدد الدولة الأردنية، وليس أمامه من خيارات سوى المواجهة، أو السكوت وغض النظر، وذلك بانتظار أن تتغير المعادلات، والموازين السياسية.

قبل الانفجار، واشتعال عود الثقاب في الإقليم على الدولة الأردنية أن تسارع الخطوات لتمتين جبهتها الداخلية، وهذا لا يتحقق إلا بتذليل الكثير من المشكلات الاقتصادية، وزيادة هوامش الحريات، والإصلاح السياسي.

وخارجياً عليها مراجعة شبكة علاقاتها، وتوسيع خياراتها الدبلوماسية، ففي الملف الفلسطيني إعادة الاشتباك مع كل التنظيمات، وفي مقدمتها حماس، والالتزام بحصرية العلاقة مع السلطة الفلسطينية، و"فتح" موقف يتطلب مراجعة عاجلة، مع تزايد الصراع على خلافة الرئيس محمود عباس.

أكثر من ذلك فإن الفرصة مواتية لتقارب أردني مع طهران، والأمر أكثر مقبولية بعد قمة بغداد الثانية التي جرت في البحر الميت، وشارك فيها وزير الخارجية الإيراني، وربما يكون هذا استكمال لحوار غير معلن بدأ بين الأردن وإيران برعاية عراقية في بغداد، وحتى اليوم ظل محصورا بتمثيل أمني – استخباراتي، وقد يكون هذا أوان حوار سياسي رفيع بين البلدين يُنهي، ويقطع دابر التوجسات، ويبعث برسائل قاسية إلى إسرائيل في ذات الوقت.

على الأردن أن يلعب بالأوراق التي تُرعب إسرائيل، وتفرض على دولتها العميقة أن تراجع أجندتها، وعدا أنه يملك القدرة للمساهمة في فرض طوق من الحصار السياسي على حكومة لم تجد ترحيبا من العالم، فإنه للتذكير يحتفظ بأطول حدود برية معها، وأي "غض للنظر" يُهددها أمنيا بالعمق.

باختصار حتى تسقط حكومة المتطرفين في إسرائيل فإن الأردن مطالب بالتحوط من كل الاحتمالات، وأن يسقط كل التابوهات والخطوط الحمراء، فإسرائيل بحكومتها العنصرية لا يمكن مصافحتها، ولا تؤمن جانبها.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.