لعل السلطة منتهية الصلاحية في رام الله، وهي الوريث الشرعي والوحيد لمنظمة التحرير الفلسطينية، كان عليها الرد، ولو ببيان مكتوب، على مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة الذي أثار الجدل "البيزنطي بامتياز" متهما الأردن أنه كان دولة احتلال للضفة الغربية عام ١٩٥٠.
على الأقل فإن ورثة "التمثيل الشرعي والوحيد" للشعب الفلسطيني ملزمون أخلاقيا بتوضيح حقائق التاريخ الذي كانوا طرفا في تشكيله "ومسخه" أيام "الثورة الفلسطينية" التي انتهت اليوم في رام الله بسلطة مخافر ومخاتير أثرياء يتنازعون القيادة على ما تبقى لهم من تمثيل لم يعد متواجدا.
لن يؤخر الرد ولن يقدم شيئا كثيرا، لكنه على الأقل سيكون توثيق حالة بصيغة اعتذار تأخر كثيرا على خطيئة ذلك التمثيل "الشرعي والوحيد" والذي أوصل الجميع إلى ما وصلوا إليه اليوم، وأولهم الشعب الفلسطيني ضحية كل ذلك "التمثيل"!
لكن الهجوم الإسرائيلي عبر ممثل تل أبيب في الأمم المتحدة يعكس تصعيدا جديدا في العلاقات التي تصر حكومة بنيامين نتانياهو على تأزيمها مع الأردن، ليس بدءا من انتهاكات مستفزة في القدس يقودها وزير التأزيم الأمني بن غفير، ولا انتهاء برؤية يمينية حملها نتانياهو بالانتخابات والتحالفات إلى مراكز صنع القرار في إسرائيل.
وحتى في مفاصل الإدارة الأمنية يعين نتانياهو حليفه الليكودي الأثير والمتشدد "بالوراثة"، تساحي هنغبي، رئيسا لمجلس الأمن القومي، وهنغبي الذي ينادي بحرب "تدميرية" لإيران وقدراتها النووية لا يؤمن بضرورة أي دعم إقليمي او عالمي لهذا التوجه!
إسحاق هرتسوغ، الرئيس الإسرائيلي ذاته، عكس قلقا واضحا من انزياح كامل الدولة نحو اليمين بتأثير الحكومة معلقا في تصريح مكثف له بأن الحكومة المقبلة يجب أن تكون "حكومة تخدم جميع مواطني إسرائيل، سواء أولئك الذين أيدوها وصوتوا لها، أو أولئك الذين عارضوا تشكيلها".
ويبدو، حسب مصادر إسرائيلية متعددة، أن "حكومات نتانياهو" قادرة بل موهوبة بتوريط الجميع في مغامرات مكلفة دوما، وهذا ما يقلق لا رئيس الدولة في إسرائيل وحسب، بل طيفا واسعا من النخب الإسرائيلية، لكن في المحصلة فإن حضور نتانياهو ما هو إلا حاصل جمع "وطرح وقسمة" المزاج العام الإسرائيلي ذاته!
هي حكومة طاقم محركاتها التوربيني لا يؤمن بالفلسطينيين وحقوقهم من الأساس، وليست على استعداد لأي نقاش ممكن حول حل الدولتين، ويرى طاقمها بالمجمل أن الحل "الفلسطيني" هو دائما أردني بالترحيل الديمغرافي دون أي اعتبار للقانون الدولي ولا كل المجتمع الدولي أيضا.
من حق الأردن أن يقلق، ويقلق كثيرا في هذه الحالة، فتصبح زيارة "مكوكية خاطفة" للملك الأردني إلى أبوظبي استحقاقا ضروريا لمواجهة "دبلوماسية خشنة" سبق أن أعلن عنها الملك في مقابلة مع محطة سي أن أن على ضفاف نهر الأردن ومن حيث موقع العماد.
الزيارة الملكية الخاطفة للعاصمة الإماراتية يصر "المصدر الرسمي" أن يبقيها في حدود سقف نشرة الأخبار الرسمية بنفس اللغة البائدة، فالمصدر الذي تواصلت معه أكد لي أن الزيارة "اجتماع تنسيقي مستمر وشبه شهري مع الإخوة في الإمارات وليست زيارة رسمية عمليا".
مع أملي بأن يكون الأمر كذلك، لكن وكالة الأنباء التركية كانت مفصحة أكثر قليلا من مصادرها الصحفية في الإمارات لتؤكد أن الزيارة كانت متعلقة بالتصعيد الإسرائيلي في القدس تحديدا، وهذا لوحده يمكن بناء تصور إقليمي مستجد عليه بكل ما يحمله من أبعاد جديدة في المنطقة.
شخصيا، لا أرى في هذا التوصيف الرسمي للزيارة إلا مزيدا من سواتر ترابية يراكمها المسؤولون الأردنيون، وأي مفاجأة قادمة "والمفاجآت دوما على الطريق وقادمة في الأردن" ستزيح تلك السواتر مما يضع الكل في موقف حرج، والأزمات هذه المرة مع إسرائيل لها تشابكاتها الإقليمية الحساسة، ولا يمكن حلها بمصادفات حظ سعيد، ولا "فزعات" ارتجالية تعمل على ترحيل الأزمة وحسب المعتاد!
إن كل ما يحدث في تلك الحكومة اليمينية وما تحدثه من سياسات تعمل عليها سيؤثر وبشكل مباشر على الأردن، ومن ذلك مثلا أنه وقبل أداء حكومة نتانياهو اليمين الدستورية بيومين، فقد أقر الكنيست ما يسمى بـ"قانون درعي"، الذي تمت تسميته على اسم زعيم حزب شاس الديني المتشدد، أرييه درعي.
وهو تعديل يسمح بتعيينه وزيرا في الحكومة، رغم إدانته وبأحكام بالسجن عليه (تم وقف تنفيذها)، وحسب ما تم الاتفاق عليه في كواليس لقاءات نتانياهو مع أحزاب اليمين، فالمتوقع أن يتناوب درعي وبتسلئيل سموتريتش، من حزب الصهيونية الدينية، على منصب وزير المالية.
في غضون ذلك، سيشغل درعي منصب وزير الصحة والداخلية، وسموتريتش هذا، هو نفسه جزء من حركة المستوطنين، وقد سيطر من خلال تعديل آخر على القوانين، على أجزاء من وكالة الإدارة المدنية التي تعمل تحت إشراف وزارة الدفاع، وتدير هذه الوكالة فعليا الشؤون الإسرائيلية والفلسطينية في الضفة الغربية، مما يجعل حضور السلطة الوطنية الفلسطينية مزحة تاريخية ثقيلة الدم.
وهذا التعديل يمنحه سلطة واسعة محتملة لتوسيع المستوطنات اليهودية الواقعة في المنطقة (C)، التي تشكل حوالي 60 في المئة من أراضي الضفة الغربية، مما يعني على أرض الواقع "ضما فعليا" للمنطقة، وهو ما يجعل أي حديث عن "حل دولتين" تاريخا مرصوفا على الرفوف.
وهذه بحد ذاتها سلوكيات وسياسات قائمة وليست حديثا للاستهلاك الشعبي وتمارسه حكومة نتانياهو مما يضع تصريحات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أمام اختبار حقيقي وقد قال، في ديسمبر الماضي، ما نصه أن الولايات المتحدة ستعمل على "معارضة أي أعمال تقوض بشكل لا لبس فيه آفاق حل الدولتين، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، التوسع الاستيطاني (و) التحركات نحو ضم الضفة الغربية".
يمكن أن نقول لوزير الخارجية الأميركي هنا، أنك يا سيد بلينكن، وببساطة لو قرأت جدول أعمال الحكومة ومشاريعها القانونية ستجد أنها أعمال تقوض كل حل ممكن لأي دولة فلسطينية ممكنة ولو بالحد الأدنى، وبلا أي التباسات هي تهدد الأردن ذاته وبالضرورة باقي الإقليم، والعد التنازلي لاحتمالات سيئة ويمكن تثبيته عند شهر رمضان الوشيك أول الربيع القادم.
الأميركيون الذين استقبلوا الملك الأردني قبل صيفين بترحيب شديد الحرارة واستمعوا إلى مقارباته الإقليمية حينها بانتباه وحرص، عليهم أن يستمعوا إليه من جديد وقد صارت مصالح الأردن ذاته على محك المواجهة مع إسرائيل، مواجهة كاد التهديد بها أن ينفلت من لسان الملك وهو يلتقي صحفية السي أن أن بلهجة حازمة وحاسمة تشي بوجود أزمة حقيقية وعميقة عبر عنها العاهل الأردني، رغم أن الإعلام الرسمي ورجال الملك يؤكدون ما يمكن لمذيع نشرة أخبار رسمية في ثمانينيات القرن الماضي سرده في النشرة.
وتلك قصة أخرى..ومقال له مقامه.