مظاهرة في إسطنبول احتجاجا على وفاة الإيرانية، مهسا أميني. أرشيف
مظاهرة في إسطنبول احتجاجا على وفاة الإيرانية، مهسا أميني. أرشيف

أصبح من المتعارف عليه أن حقوق ومكتسبات المرأة الإيرانية تراجعت تراجعاً كبيراً بعد الثورة الإسلامية وبعد أن طبق الخميني مفهومه الخاص لولاية الفقيه. مع أن الثورة الإسلامية انطلقت مع شعارات إنصاف المرأة وإعطاءها حقوقاً تفوق تلك التي تحققت لها زمن الشاه.
لكن المرأة الإيرانية، التي ساندت الثورة الإسلامية وساهمت في إنجاحها، تعرضت للخيانة باكراً. فقُلِّصت حرياتها وحقوقها مع الوقت وأقصيت عن المشاركة السياسية التي تمتعت بها أيام الشاه.

وبعد أن حققت المرأة بعض التقدم في التساهل تجاه الحجاب والخروج إلى الحيز العام خلال حكم الإصلاحيين، عاد التضييق وبلغ أقصاه مع استلام المتشدد رئيسي الحكم، وهو المتهم بأحكام الإعدام لآلاف السجناء السياسيين.

أشعلت سياسته التي تسببت بمقتل مهسا أميني، من قبل شرطة الأخلاق، غضب نساء إيران، وثورتهن. وسرعان ما غزا شعار "زَنّ زَنْدَكي آزادي"، الذي رفعنه ويعني "المرأة، الحياة والحرية"، الكوكب وترددت أصداءه في معظم عواصم العالم.

تحولت رسوم الكاريكاتور التي تمثل خلع النساء للحجاب ورفضهن لتسلط رجال الدين إلى مصدر إلهام لمختلف الأعمال الفنية. وقصّت العديد من النساء خصلات من شعرهن أمام الكاميرات مساندة لثورة الشابات والشبان من أجيال ما بعد الثورة الإسلامية، التي لا تفهم الخضوع لمثل هذا الحكم المتحجر الذي يعيش خارج الزمن.

صارت مهسا أميني أيقونة عالمية للمطالبة بحق المرأة بالحياة والحرية. على غرار شعار الستينيات "Love & Peace"، الذي شكّل "باراديغم" الشباب الرافض للعنف والحروب حينها، افتتحت ثورة الإيرانيات زمناً ثورياً جديداً سيكرس حرية المرأة وحقوقها محورا للثورات القادمة.. إنه عصر المرأة والحريات، وهو ما حمل، أحمد بيضون، لاعتبار شعار "زن زندكي آزادي" ثالوثاً على طراز ثالوثُ الثورةِ الفرنسيّةِ "حرّيّة مُساواة إخاء"…

يعيد هذا الأمر إلى الذهن موقف النساء اللبنانيات اللواتي كن يتقدمن المظاهرات بشجاعة في ثورة 17 أكتوبر لحماية الشباب المستهدفين بالعنف. وبينما أخمدت ثورة اللبنانيين لتشابك الأمور في بلد الأرز، تحول القتل على يد شرطة الأخلاق في إيران إلى صاعق أشعل ثورة عارمة لا يبدو أنها ستتوقف.

لأن المسألة ليست مسألة حجاب فقط، بل هي قضية شعب يحتله نظام فاشي وسلطة قهر بوليسية تتخذ من الدين درعاً لها، فيزعم قداسة لمرشده ووكالة من الله!!.. نظام سلب الإيرانيين أبسط حقوقهم الأساسية، ولم يقدم لشعبه ولشعوب المنطقة التي اعتدى عليها سوى البؤس والانهيار، تحت شعار تصدير الثورة!!

وفي حين نجحت حتى التلميذات الصغيرات في الاستمرار بإعلاء أصواتهن في مظاهرات واحتجاجات مستمرة، وهنّ مهددات مع إخوانهم بالقتل والإعدام، كانت المرأة، في بعض البلدان العربية، تتعرض لموجة قتل (مصر والجزائر)، من قبل العرسان المرفوضين. وسبق ذلك موجة جرائم الشرف وقتل النساء التي درجت في الأردن لفترة. وفيما بينهما عرف لبنان  موجة قتل النساء والزوجات في خضم الفوضى، وتصاعد نسبة الجريمة بشكل عام. هذا حال بلدان تعاني من جبال من المشاكل المتراكمة وترد عليها من باب ثقافتها السائدة: "ثقافة العنف" ودونية النساء.

الجميع يتفق عموماً على أن المرأة الإيرانية تتمتع بمكانة في المجتمع وبقوة الشخصية وبنفوذ قوي في الأسرة. قد يحثنا ذلك على البحث في جذور هذه الوضعية. سادت في إيران، قبل الإسلام، الديانة الزرادشتية. وهناك شبه إجماع بين الباحثين على أن مكانة المرأة في تلك الديانة كانت عالية وتتمتع بالاحترام. كما يؤكد البعض أنها تمتعت بالمساواة أحياناً. يورد الشيخ، توفيق الحسيني، في مؤلفه عن الزرادشتية، أن الحكاية تقول إن امرأة ملك فارس، عند ظهور زرادشت، آزرته وساعدته على بث دعوته في إيران. وهذا كان سبب احترامها ومكانتها بالنسبة للزرادشتية.

ربما لم تتمتع المرأة دائماً بتلك المكانة في تلك العصور، لكن من الملاحظ أن مكانة المرأة عند الأكراد أيضاً، الذين كانوا يعتنقون الزرادشتية قبل الإسلام، أفضل مما هي عليه في البلاد العربية عموماً. والمرأة الكردية تترأس الأحزاب وتقاتل، فلا ننسى دور فرقة المقاتلات الكرديات في محاربة داعش التي أثارت إعجاب العالم. ما يعرّض النساء الكرديات للاغتيال كما حصل لـ (ناكيهان اكارسال) مع رفيقتين لها. وبالمناسبة، أخبرتني إحدى المناضلات الكرديات التي تعيش في لبنان، أن أول من رفع شعار  "زَنّ زَنْدَكي آزادي" كان، عبد الله أوجلان، في مطلع السبعينيات.

كما أن أكثر ما لفت نظري في الشرق الأقصى، عندما زرت المعابد في إندونيسيا في العام 1999، كان وضع تماثيل الملك والملكة التقليديان، متجاوران دائماً ومتساويان في المكانة، وأينما ذهبت. وهذا ما لا يمكن تخيله في البلاد العربية. وجميعنا نعرف أن النساء في الهند وباكستان وسريلانكا تبوأن مناصب القيادة في العقود الأخيرة. بينما في تاريخنا ليس لدينا سوى نموذج شجرة الدر التي حكمت لفترة ثمانين يوماً ثم سلمت الحكم لزوجها.

ومن المعروف أن المرأة العربية تشارك في جميع الثورات، لكن معظم الأحيان كرديف أو مساعد ثانوي، سرعان ما يتم الاستغناء عن خدماتها. حصل ذلك مع المرأة الفلسطينية ومن قبلها مع المرأة الجزائرية. في مصر استخدم سلاح العنف والتحرش الجنسيين لقمعها خلال ثورة 25 يناير. كما نشرت "الحرة" مؤخراً تحقيقا بعنوان: بسبب "العرض والشرف".. أكثر من نصف نساء لبنان لا يبلّغن عن الاعتداءات الجنسية.

أذكر أننا كلما أشرنا إلى وضعية النساء الدونية في العالم العربي والإسلامي، جوبهنا بمقولة أن الإسلام أنصف المرأة فمنع وأد البنات، وسمح بتوريثها!! لكن السؤال هل حقاً هذا هو عنوان التقدم الآن؟ السماح بتوريثهن (النصف فقط) ومنع قتلهن؟ أو معاملتهن كجوهرة، على حد ما يزعمون؟ فالمرأة في مجتمعاتنا يطلق عليها "حرمة" وهي "حرم فلان". والحرم له معنى المنع والنهي، ما يستوجب تخبأتها وتقييدها.

أذكر مرة أثناء محاضرة لي عن العلاقة بين الجنسين، أن شاباً، خانه النقاش المنطقي، صرخ في وجهي: على كل حال النساء ناقصات عقل. ولا أدري مدى صحة نسبة هذه المقولة للإمام عليّ. لكنه القول الشائع والممارس في ثقافتنا ضد النساء.

هزأت صبية من فكرة الشاب عن نقص عقول النساء في تلك الندوة، فذكرته بقوانين الوراثة البيولوجية التي تقول إن الطفل يأخذ مورثاته "Gênes" عن كلا الوالدين مناصفة عن كل واحد منهما، فإذا صحت نظرية الوراثة تلك، ولم تتعارض مع تشريعاتنا الدينية!! يكون الطفل الصغير قد أخذ نصف عقل عن والده وربع عقل عن والدته، فيصبح بثلاثة أرباع العقل!.

أعتقد أن على هكذا مجتمعات الاعتراف بواقع اضطهاد النساء ومواجهة هذه الثقافة بجدية وفتح باب الإصلاح الديني والاجتهاد وليس التهرب، على ما يرى بعض المراجع الدينية "التقدمية" من أن "مشكلة المرأة مشكلة مستوردة لإفساد الأمة، وهي غير موجودة أصلاً، وإنها دخلت عن طريق الفكر الغربي".

ما تجدر ملاحظته أن مجتمعاتنا خضعت في المرحلة الأخيرة، لاتجاهين متعارضين فيما يتعلق بالنساء وبالإسلام السياسي. فبينما كانت بعض المجتمعات العربية تتجه نحو التشدد والتعصب الإسلامي، كما في مصر والسودان والأردن وسوريا.. كانت السعودية المتهمة بالدعشنة وبتصدير الوهابية، تعرف تحولاً وانفتاحاً غير مسبوقين. فلقد تنبهت السعودية أن تقدم المنطقة لا يمكن أن يتم إلا بمواجهة الأصوليات وبتحرير طاقات الشابات والشبان ومنحهم الحريات الضرورية لذلك.

وفي الوقت الذي تكفّ فيه السعودية من سلطة المطوعين وتسمح لشبانها وشاباتها بالاحتفال بالميلاد ورأس السنة بالغناء والرقص، تتشدد إيران تجاه شعبها وتسجن وتعتقل وتعدم الشبان والشابات الذين يعترضون سلمياً على سياسات النظام وقمعه وسلبه حقوقهم. والعالم يتأخر في ردود فعله المناسبة والضرورية لمساندة الشعب الإيراني.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.