صورة أرشيفية تجمع إردوغان والأسد في فبراير 2011
الأسد وإردوغان في لقاء بمدينة حرب يعود إلى بدايات العام 2011.

على الرغم من تعارض تطبيق ما قد يتفقان عليه مع الوقائع وأصل الأشياء، إلا إن الرئيسين أردوغان والأسد متأكدان من أنهما يمكن أن يطبقا أي شيء يتفقان عليه على الأرض! 

هما متأكدان من ذلك، حتى لو كان ذلك الشيء متعلقا مثلا بنقل ملايين السكان من دولة إلى الأخرى، دون أي اعتبار لما قد ينتج عن ذلك من تدمير لروابط وشبكات ونوعية حيواتهم، أو دفع لملايين آخرين ليدخلوا ضمن مقصلة حُكم غارق في الشمولية، أو أن يطبقوا اتفاقا قائما على تحطيم منظومة حُكم محلية وبعثرة سكانها، تلك المنظومة التي حاربت تنظيم داعش الإرهابي لعشر سنوات، وبذلت في سبيل ذلك عشرات آلاف الضحايا، ويمكن لتحطيمها أن يعيد الحياة لذلك التنظيم الإرهابي. أو أن يغضوا النظر عن جرائم طالت مئات الآلاف من الأناس، أو إلغاء لملكيات مئات آلاف آخرين، أو أي شيء آخر. 

فالرئيسيان، ومعهما تشكيلة كاملة من الفاعلين والسياسيين وإدارة الحُكم، يشكلان منظومة سلطوية تملك اعتدادا غير معقول بالذات وثقة بإمكانية فعل أي شيء. وهي بمجموعها نوعية من السلوك والمنطق في التعامل مع أي "استعصاء سياسي"، عبر محقه، متأت من تاريخ مديد من مثل هذه التجارب، التي نفذتها قوى الحكم في منطقتنا مرات لا تُعد. 

فكل جزيئية من استراتيجية التقارب بين الرئيسين التركي والسوري هذه، ونظامهما، تشبه "لعبة المونوبولي الكارتونية"، أكثر بكثير من شبهها لأي شيء متعلق بالسياسة والمجتمع، والحياة نفسها. وليس في هذا ما هو غريب، فالتاريخ والحاضر السياسي لمنطقتنا، حسب حقيقته العارية، كان كذلك على الدوام. كانت روح الساسة وآليات السياسية فيها قائمة على تلك الرؤى التي تجمع أوهام الهندسة الاجتماعية بأعلى درجات الغطرسة. فما يجذب الفاعلين ويدفعهم لفعل ذلك، هي مخيلاتهم ورؤاهم الأكثر ضيقا، مصطفة إلى جانب مصالحهم السلطوية الأكثر مباشرة. وهو أمر سيتكرر مرة أخرى في تجربة الرئيسين: فوز لهذا في الانتخابات المقبلة، وإعادة تعويم وشرعنة للآخر، دون أي اعتداد بأصل الأشياء وركائزها الأكثر بداهة وحقيقية، ممتلكاتهم ومصائرهم وحقهم في الحياة والحصول على درجة ما من الأمان. 

فما كان يسمى يوما في التجارب العالمية بـ"الفاشية"، هو تقريبا ممارسة عمومية في تاريخنا السياسي الحديث. إذ نادرا ما صادفت هذه المنطقة زعامات ونظما حاكمة لا ترى الحياة والمجتمعات والكيانات والأنظمة على شكل بستان مملوك للذات، يمكن ترتيبه وإعادة تشكيله وتوزيعه حسب ما قد يكون مناسبا. فعلى الدوام كان ثمة جهة ما معتدة بالقوة المحضة فحسب، سواء أكانت تلك الجهة حزباً أو إيديولوجيا أو عرقاً أو نظاماً سياسياً أو حتى شخصاً، ترى في نفسها القدرة والقابلية على إعادة تشكيل الأشياء من جذورها، لتكون مطابقة لشرط سلطوي وآخر في المخيلة. وإن صدف ووجدت ممانعة ما لتنفيذ ذلك، فسكة التعامل مع تلك الممانعة تمشي عبر حقول الإبادة.  

ربما كانت المأساة الأرمنية والسريانية الأكثر وضوحاً في بدايات القرن، لكن مسيرة كاملة من الإبادات ومشاريع التغيير الديموغرافي والمحق البيئي والنقل السكاني والإلغاء الثقافي مرت في مختلف بلدان المنطقة منذئذ. استمدت منها الأنظمة والتيارات الإيديولوجية والتنظيمات الحزبية العافية والاعتداد والاعتقاد بإمكانية التكرار إلى ما لا نهاية. ولن تكون تجربة الرئيسين المتوقعة في الأفق المنظور خارج هذا الفضاء الكلي. 

لماذا؟! 

لأن مجموع تلك الأفعال التي قامت بها الأنظمة والسلطات الحاكمة، وإلى حد كبير اشتركت بها المجتمعات ضد بعضها البعض، لم يطلق في وجهها أية معارضة كانت، سواء تلك المعارضة السياسية الحامية، أو نظيراتها الثقافية والفكرية والفنية، الباردة والمستدامة، أو حتى تلك الوظائفية، التي تفعلها عادة المؤسسات والمنظمات الدولية ذات الشأن، أو حتى الأبسط إيماناً، المتعلقة بالمعارضة الأخلاقية الفردية لمثل تلك الأفعال. 

بمعنى أكثر مباشرة: لم تصبح الإبادة ومشاريع الهندسة الاجتماعية وبرامج تغيير شكل الحياة قضية ومسألة ذات أهمية وتنازع وتفكير وشجب وإدانة بالنسبة لنخب ومجتمعات منطقتنا. فهي تجري وكأنها شيء عادي، رتيب ومن الحياة نفسها. 

يُمكن تحديد "حملة الأنفال المريعة" التي نفذها النظام البعثي بحق الأكراد في ثمانينيات القرن المنصرم، وراح ضحيتها قرابة ربع مليون كردي عراقي، أغلبيتهم المطلقة من المدنيين، النساء والأطفال تحديداً، من الذين دفنوا أحياء في مقابر جماعية جنوب العراق، كمثال واضح عن ذلك.  

فحتى الراهن، تتراوح مواقف المجتمعات العراقية، غير الكردية، من هذه الفعلة الفظيعة بين النكران والتبرير والتشكيك، دون أية حمية لنقاشها، سياسياً فكرياً إيديولوجياً وإنسانياً. إذ لم يُكتب عنها مثلاً قصيدة شعرية ولم يُنتج فيلم سينمائي واحد عنها، ومجموع المقالات والكتب انتجها فاعلون أكراد، خلا مثال أو أثنين.  

الأمر نفسه كان ينطبق على كامل الإقليم، فكل دول جوار العراق، حتى أكثرها عدائية لنظام صدام حسين وقتئذ، لم ينطقوا بحرف عنها. الأمر نفسه كان يُطبق على الدول الكبرى والمؤسسات الدولية، التي ما تذكرت ذلك إلا بعد سنوات، حين صارت مستفيدة من شيطنة نظام صدام حسين بعد حرب الخليج.  

حدث الأمر نفسه مع المسألة الأرمنية/السريانية من قبل، ولحقه حرق آلاف القرى الكردية في تركيا ونقل سكانهم إلى الدواخل التركية، وما سبقها من نقل لمئات الآلاف من الإيرانيين من غرب البلاد إلى صحاري خرسان، وما فعله النظام العراقي من قطع للمياه عن أهوار جنوب العراق لمحق سكانه، النوبيون جنوب مصر لاقوا الأمر نفسه، وبعدهم كان النظام السوري يزيد من أعداد البدو في محافظة السويداء لكسر الأغلبية الدرزية، وأثناء الحرب الأهلية اللبنانية أبيدت بلدات وتغيرت ملامح مدن، وأثناءها كان نظام الأسد يزرع عشرات القرى العربية في المناطق الكردية، لكسر الوحدة الجغرافية للأكراد السوريين، وهكذا. 

لكن في المحصلة، لم تتحول مجموع تلك الأفعال إلى قضايا ومسائل، إلى مسائل على جدول تفكير وموافق أناس هذه المنطقة، وبذا لم يملكوا الأدوات العقلية والوجدانية والروحية لرفض بستنة البشر، للوقوف في وجه هذه النوعية من المخيلات والاستراتيجيات المريعة. لذا يُستسهل إعادة تنفيذها، وبالذات بحق ضحايا جدد، كانوا صامتين حينما كانت تلك الأفعال تمارس بحق ضحايا آخرين.  

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.