عندما فتش عناصر مكتب التحقيقات الفدرالي منتجع مارالاغو في الثامن من أغسطس، عثروا على وثائق سرية
وثائق سرية عث عليها المحققون في مكتب ترامب

عندما عين وزير العدل ميريك غارلند محققا خاصا للنظر في ما إذا كان الرئيس بايدن أو أي من مساعديه قد انتهكوا القانون بعد العثور على وثائق رسمية سرية في مكتب خاص استخدمه بايدن بعد انتهاء ولايته كنائب للرئيس باراك أوراما في مركز أبحاث يحمل اسمه في واشنطن، ولاحقا في منزله في ولاية ديلاوير، كانت شعبيته ترتفع تدريجيا على خلفية انحسار معدلات التضخم، وانخفاض البطالة إلى مستويات تاريخية، والأداء الجيد والمفاجئ للديمقراطيين في الانتخابات النصفية، ومع تفاقم التحديات القانونية للرئيس السابق ترامب، وتخبط الجمهوريين في مجلس النواب. وكان بايدن قد أسس المركز بعد تقاعده من البيت الأبيض، والوثائق تعود إلى دوره في ولاية الرئيس أوياما .

ردود فعل الجمهوريين الاحتفالية على هذه الهدية المجانية التي وقعت في أحضانهم تبين عمق امتنانهم لهذه الفرصة التي أبعدت الأنظار عن الخلافات بينهم في مجلس النواب والتي انعكست على انتخاب كيفين ماكارثي رئيسا للمجلس بعد 15 دورة انتخابية ومساومات ومقايضات محرجة بينه وبين حفنة من غلاة المتطرفين الموالين للرئيس السابق ترامب. وسارع مكارثي وغيره من رؤساء اللجان المختصة إلى الإعلان عزمهم تنظيم جلسات استماع للتحقيق بأوراق بايدن السرية واستدعاء مسؤولين من وزارة العدل وأجهزة حكومية أخرى للمثول أمامهم

قرار الوزير غارلند يعني أن بايدن سيواجه خلال الأسابيع والأشهر المقبلة تحقيقات قضائية تشمل استجواب مساعديه وربما استجوابه شخصيا،، وعناوين سلبية أو مثيرة وخاصة في وسائل الإعلام المحافظة واليمينية، وتكهنات حول مستقبله السياسي، وأخرى من خصومه ومؤيديه حول كيفية ارتكابه لمثل هذه الأخطاء وهو الذي يفاخر بأنه يتعامل بمسؤولية مع وثائق الدولة السرية.

وكان الوزير غارلند قبل شهرين قد عين المحقق الخاص جاك سميث للنظر في حيازة الرئيس السابق ترامب لوثائق سرية ورفضه التعاون مع وزارة العدل بهذا الشأن، ما أثار الأسئلة حول احتمال ضلوعه مع مساعديه في محاولة عرقلة التحقيق. وكان من اللافت أن غارلند ارتأى تعيين المحقق الجمهوري روبرت هيو، وهو مسؤول سابق بارز في وزارة العدل كان قد عينه الرئيس السابق ترامب في منصبه. ويعتقد أن الوزير غارلند يريد الالتفاف مسبقا على أي محاولات من الجمهوريين في مجلس النواب التشكيك في صدقية التحقيق بوثائق بايدن.

وكما هو متوقع سارع الجمهوريون، حتى قبل معرفة كيفية وصول هذه الوثائق إلى مكتب ومنزل بايدن، لاتهامه بالمعايير المزدوجة والخبث السياسي خاصة وأنه انتقد بشدة قرار ترامب نقل مئات الوثائق السرية إلى مقره في ولاية فلوريدا. وسارع هؤلاء إلى المقارنة والمساواة بين الحالتين على الرغم من وجود فروق عديدة بينهما.
الفارق الأساسي بين الحالتين هو أن الرئيس بايدن ومساعديه أبلغوا الأجهزة الرسمية وتحديدا الإدارة الرسمية للأرشيف والسجلات، ولاحقا وزارة العدل فور العثور على الوثائق، وتعهدوا بالتعاون الكامل مع المسؤولين مع التأكيد بان الوثاق المحدودة وصلت إلى مكتب ومنزل بايدن بطريق الخطأ. من جهته أكد بايدن أنه لا يعرف كيف وصلت الوثائق إلى حوزته، وأنه غير ملم بمضمونها، ولم يطلب الاطلاع عليها. في المقابل رفض الرئيس السابق ترامب ومساعديه طلبات إدارة الأرشيف العديدة استعادة الوثائق، وحتى بعد تسليم الإدارة عددا من الصناديق التي تحتوي على سجلات ووثائق سرية عديدة، تبين لاحقا أن ترامب ومساعديه لم يسلموا كل ما لديهم من وثائق. هذا الوضع أرغم وزارة العدل على الحصول على أمر قضائي بتفتيش مقر ترامب والاستيلاء على الوثائق. ولذلك يواجه ترامب ومساعديه تحقيقا جنائيا.

ولكن التعاون الأولي والسريع الذي أبداه بايدن ومساعديه مع محققي وزارة العدل وموظفي إدارة الأرشيف لا يعني أنهم لن يواجهوا أسئلة صعبة ومحرجة عليهم الإجابة عليها بسرعة وشفافية، لمنع خلق الانطباع العام في أذهان المواطنين من أن تصرف بايدن مماثل لتصرف ترامب، وان هناك تكافؤ بين الحالتين. ومن أبرز هذه الأسئلة: لماذا لم يعلن البيت الأبيض عن اكتشاف الوثائق في مركز بايدن الذي أسسه بالتعاون مع جامعة بنسلفانيا فور حدوث ذلك، أي في الثاني من نوفمبر- تشرين الثاني الماضي، أي قبل 6 أيام من موعد الانتخابات النصفية؟ وهل عدم الكشف عن الأمر مرتبط بالانتخابات النصفية، وهل شارك بايدن في هذا القرار؟ أيضا لماذا لم يكشف البيت الأبيض عن العثور على وثائق سرية في منزل الرئيس بايدن بولاية ديلاوير في العشرين من ديسمبر – كانون الأول الماضي، حين بثت شبكة التلفزيون سي بي إس تقريرا عن اكتشاف الوثائق في مركز بايدن؟ من المسؤول عن تأكيد البيت الأبيض لصحة خبر شبكة سي بي إس عن وثائق الرئيس في مكتبه، وعدم الإشارة إلى الوثائق السرية في منزله في ديلاوير، في غرفة ملاصقة لمرآبه. حين علّق بايدن للمرة الأولى عن الوثائق قال إن مرآبه الذي يحتوي على سيارته من طراز Corvette "مقفل" الأمر الذي عرضه للتهكم ودفع بشبكة فوكس اليمينية لوصف مرآب بايدن Car- a- Lago في تلاعب على الكلمات مع اسم مقر ترامب في فلوريدا Mar- a- Lago.

ولكن بغض النظر عن الفروق القانونية بين الحالتين وحقيقة أن ترامب قاوم التحقيق الأولي وأمتنع في البداية عن تسليم وثائق رسمية سرية أشرف على نقلها من البيت الأبيض إلى مقره في فلوريدا، وفي المقابل تعاون بايدن مع التحقيق وجهله لكيفية وصول هذه الوثائق إلى مكتبه ومنزله قبل سنوات. إلا أن المقارنة السطحية سوف تظهر أنه للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة تقوم وزارة العدل بتحقيقات متزامنة مع رئيسين، أحدهما سابق، والآخر في البيت الأبيض حول احتمال انتهاكهما للقوانين المتعلقة بكيفية حفظ واستخدام الوثائق الرسمية والسرية للدولة. الرئيس السابق أعلن قبل أسابيع عن ترشيح نفسه لولاية جديدة، والرئيس الحالي كان يعتزم قريبا ترشيح نفسه لولاية ثانية.

الديمقراطيون سارعوا للوقوف وراء بايدن، ولكن بعضهم انتقدوا أو تساءلوا عن غياب الشفافية، والأسباب التي أدت إلى تقديم مثل هذه الهدية المجانية للأكثرية الجمهورية في مجلس النواب التي ستستخدم تحقيقاتها بطريقة مماثلة لاستخدام التحقيقات باغتيال السفير الأميركي كريستوفر ستيفن في ليبيا في 2012 لتشويه سمعة ومكانة وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك هيلاري كلينتون والإضرار بها قبل إعلانها عن ترشيح نفسها للانتخابات الرئاسية في 2016.

مقربون من الرئيس بايدن قالوا إنه يشعر بإحباط كبير لأن أخطاء عرضية ناتجة عن تهور من قبل بعض مساعديه في التدقيق بالوثائق قبل نقلها إلى مكتبه ومنزله قد وضع عراقيل سياسية وقانونية أمام مسيرته السياسية في هذه اللحظة الحرجة من ولايته. ويضيف هؤلاء أنه من السابق لأوانه التكهن عن تأثير قضية الوثائق السرية على قراره المتوقع، قبل الكشف عن الوثائق، بترشيح نفسه لولاية ثانية، ولكنهم استبعدوا أن يرشح نفسه قبل انتهاء التحقيق بهذه القضية.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.