الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تشهدها مصر لها علاج وحيد
الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تشهدها مصر لها علاج وحيد

يبدو أن الحكومة المصرية تعتمد أسلوباً واحداً في تعاملها مع الأزمات، يبدأ بإنكار وجود المشكلة وعندما تضطر للاعتراف بوجودها تحاول التقليل من شأنها وعندما يظهر حجم المشكلة الحقيقي تدّعي عدم مسؤوليتها عنها، ويمكن مشاهدة ذلك في طريقة تعاملها مع الأزمة الاقتصادية والمعيشية غير المسبوقة التي تعيشها مصر حالياً، فما زالت الحكومة المصرية تُصرّ على أن سبب هذه الأزمة هو ثورة يناير 2011 والتي استمرت 18 يوماً فقط دون أن يكون لها أثر اقتصادي يُذكر. 

أو نتيجة وباء كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا، ورغم الآثار السلبية التي تركتها هذه الأزمات على الاقتصاد العالمي ولكن السبب الرئيسي لما تُعانيه مصر حالياً هو أن الحكومة بعد اكتشاف حقل ظهر للغاز الذي رفع من التصنيف الائتماني لمصر اقترضت من البنوك الدولية عشرات المليارات من الدولارات حتى أصبح حجم المبالغ المطلوب من الحكومة تسديدها سنوياً أكبر من قدرتها على السداد، ثم وظّفت أغلب هذه الأموال في مشاريع غير إنتاجية عهّدت تنفيذ أغلبها إلى الجيش، مما جعل رقابة الإدارات الحكومية على هذه المشاريع غير فعّالة وانعدمت المُساءلة مما فتح الباب أمام قلّة الكفاءة والفساد، وترافق ذلك مع غياب الشفافية فلا أحد يعرف تفاصيل مشاريع الجيش أو العاصمة الإدارية كم كلّفت حتى الآن وماذا تبقّى للانتهاء من تنفيذها. 

ويبدو أن نقص الشفافية كان مقصوداً حتى لا تكون هذه المشاريع في متناول الإعلام والرأي العام ولذلك تم وضعها ضمن صناديق خاصة، كان آخرها مشروع إنشاء صندوق قناة السويس والذي نصّت أحد مواده على "تمكين الهيئة من الاستغلال الأمثل لأموالها من خلال شراء وبيع وتأجير الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها"، أي أن الهدف الحقيقي من هذا الصندوق هو بيع بعض الشركات التابعة للهيئة أو منح حقوق إنشاء مشاريع في حرم القناة لبعض الشركات. 

وعارض بعض النوّاب فكرة الصندوق وقال أحدهم "أربأ بهيئة القناة أن تلحق بمغارة علي بابا المسماة الصناديق الخاصة"، وهو بذلك كشف عن انعدام الثقة الشعبية بهذه الصناديق، ويقول المدافعون عن الحكومة المصرية إن جميع الدول تبيع بعض أُصولها أحياناً وهذا صحيح ولكنها تستثمر الأموال التي تحصل عليها من البيع في مشاريع ذات عائد اقتصادي أكبر وليس لسداد خدمات الدين. 

وتأكيداً على ذلك قالت صحيفة فايننشال تايمز أن مصر تعهّدت في اتفاقها الأخير مع صندوق النقد الدولي بتقليص دور الجيش في الاقتصاد وأن تقدّم الكيانات الاقتصادية المملوكة للدولة حساباتها إلى وزارة المالية مرّتين في السنة لتحسين الشفافية. 

كما تظاهر عناد الحكومة في قضية المُعتقلين السياسيين أولاً عبر إنكار وجودهم رغم أن التقارير الدولية تتحدث عن وجود الآلاف منهم في السجون، وعند الاعتراف بوجود معتقلين فإنها تدّعي أنهم متّهمين بالإرهاب، ولذلك أطلقت الخارجية الأميركية قبل أيام حملة بعنوان "بدون سبب عادل"، للتضامن مع الناشطين المعتقلين في السجون وجريمتهم الوحيدة هي مُمارستهم السلمية لحقوقهم الإنسانية، وأوردت مثالاً عنهم المحامي محمد الباقر والذي كانت تهمته أنه تطوّع للدفاع عن الناشط علاء عبد الفتاح الذي أصبح سجنه عبئاً على الضمير العالمي كأشهر سجين سياسي في مصر وربّما في العالم. 

حتى أن نخبة من نجوم هوليوود قرأوا مقاطع من مقاله "نصف ساعة مع خالد" تحدّث فيه علاء عن شعوره عندما عانق ابنه المولود حديثاً لأول مرة وهو في السجن "زارني خالد لنصف ساعة واحتفظت به بين ذراعيّ لعشر دقائق ربّي كم هو جميل هكذا، الحب من أول لمسة نصف ساعة أعطتني سعادة تكفي لملء السجن لأسبوع"، وفي نفس الوقت طرح علاء كتابه "أنت لم تُهزم بعد"، والذي يحتوي على تأمّلات مؤلمة من السجن. 

وقالت مديرة حرية التعبير في مؤسسة الحدود الإلكترونية، "علاء في السجن ليس لأنه ارتكب جريمة ولكن لأن وجوده يشكل تهديداً للنظام، أولئك الذين يتجرؤون والذين لا يلينون سيُهدّدون دوماً الدولة المُرعبة والتي في حقيقتها ضعيفة لأنها لا تستطيع البقاء إلّا عبر سحق خصومها مثل الذباب لكن علاء لن يسمح بسحقه بهذه الطريقة، أنا أعرف ذلك"، وفي إصرار الحكومة المصرية على استمرار اعتقال علاء تتّضح درجة من العناد غير المفهوم عند أجهزة الأمن تفسيره الوحيد وجود عقلية إنتقامية كيديّة ضيقة الأفق وقصيرة النظر ولا تأبه بما يُلحقه ذلك من ضرر للدولة المصرية. 

كما يُمكن مشاهدة عناد الحكومة المصرية في عدم محاسبة أجهزة الأمن على العنف المفرط الذي تُمارسه بحق الجميع، فقبل أيام حدث شجار بين طلبة كويتيين في الإسكندرية وكان تدخّل الأمن عنيفاً مع الطلبة وتم تصويره وتناقلته مواقع التواصل مما اعتبره كثير من الكويتيين اعتداء غير مُبرّر، خصوصاً مع العلاقات المتوتّرة بين البلدين والتي انعكست سلباً على حياة مئات آلاف المُقيمين المصريين في الكويت. 

وكان عُنف أجهزة الأمن المصرية قد لفت أنظار العالم في قصة الباحث الإيطالي ريجيني الذي قُتل قبل بضع سنوات في ظروف غامضة ووجد على جثّته آثار تعذيب مروّع نجم عن ضرب وحشي أدّى إلى عشرين كسر في مناطق مختلفة من جسده واقتلاع أظافر يديه وقدميه وحرق سجائر وصعق كهربائي على أعضائه التناسلية، وتنفي الحكومة المصرية أي دور لها في هذه الجريمة، في حين حمّلت لجنة تحقيق برلمانية إيطالية أجهزة الأمن المصرية المسؤولية عن هذه الجريمة وحدّدت أسماء الضباط المتورّطين فيها، وهناك الباحث الاقتصادي المصري أيمن هدهود والذي وُجدت جثته بعد اختفائه بشهرين في مشفى للأمراض العقلية وحسب شهادة أخيه عمر فقد كان هناك كسر في جمجمته، وقالت الخارجية الأميركية أنها تشعر بقلق عميق نتيجة التقارير التي تحدثت عن تعرّضه للتعذيب أثناء الاحتجاز وطالبت بإجراء تحقيق شفّاف وشامل حول ملابسات مقتله.

ومن المعروف أن تجاوزات عناصر الأمن تحدث في كل دول العالم ومن الأمثلة التي يُحب الإعلام العربي تكرارها مقتل جورج فلويد على يد شرطي ضغط على رقبته لعدّة دقائق مما أدى إلى وفاته، ولكن حُكم على هذا الشرطي القاتل بالسجن 21 عاماً كما تضامن الرئيس جو بايدن مع عائلة فلويد واستقبلها في البيت الأبيض واعتذرت الشرطة الأميركية عن هذه الحادثة وحصلت عائلة فلويد على 27 مليون دولار في تسوية للقضية، وهذه الإجراءات جعلت تكرار مثل هذه الجريمة أقل احتمالا، بينما يجعل عدم الاعتراف بوجود تجاوزات استمرار مثل هذه الجرائم أمراً مؤكّداً. 

وقال تقرير حقوق الإنسان الذي صدر قبل بضعة أيام، "يستغل المستبدّون الوهم الذي يروّجون له بأن وجودهم ضروري للحفاظ على الاستقرار وبذلك يبرّرون ما يقومون به من قمع وانتهاكات لكنّ هذا النوع من الاستقرار القائم على القمع يقوّض كل ركيزة لمجتمع فاعل قائم على سيادة القانون ويتسبّب في فساد واقتصاد مُتصدّع ونظام قضائي ميؤوس منه"، وأكد العام الماضي أن هذا الأسلوب غير فعّال فقد شهد اثنان من أكثر الأنظمة استبدادية في الصين وإيران احتجاجات شعبية واسعة، وبالتالي فإن الاعتماد على القبضة الأمنية قد لا يكون خياراً بعيد النظر في مصر. 

ولكن العامل المهم حالياً أن الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تشهدها مصر لها علاج وحيد وهو دخول القطاع الخاص المحلي والعالمي للاستثمار فيها ولإعادة تنشيط السياحة، ولكن هذا من الصعب حدوثه إلّا في دولة القانون التي لا يُعتقل فيها الناس لسنوات طويلة باتهامات مُلفّقة والتي لا يختفي فيها أشخاص ثم يتم العثور على جثثهم مرمية في مكان ما، وهذا ما لم تُدركه الحكومة المصرية حتى اليوم لأنها مازالت تُصر على إتباع وسائلها القديمة نفسها التي قادت البلد إلى ما هو عليه اليوم. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.