الاجتماع دعا لوحدة سوريا وسلامة أراضيها
طفلان سوريان في مخيم نازحين. إرشيفية.

وكأنهم مشهد من فيلم سينمائي فانتازي، لا أفراد وجماعات بشرية تمارس حياة واقعية مُعاشة. هؤلاء الـ 12 مليون سوري، الذين يشكلون نصف الشعب السوري، والموزعين بالتساوي بين لاجئين داخل تركيا وسكان مناطق النفوذ التركي شمال غربي البلاد ومناطق الإدارة الذاتية شمال شرقها، الذين تجري عمليات تفاوض سياسي وأمني يومية بشأن مصائرهم، تُطرح مبادرات وأفكار ورؤى لتوزيعهم ومبادلتهم وإعادة تشكيل حيواتهم والتحكم بمصائرهم، وكأنهم أحجار على لعبة الروليت، بين مجموعة من المقامرين ليس إلا، وليسوا مجموعة كبرى من البشر والمجتمعات، لها تاريخ وذاكرة وحقوق ونوعية خاصة من الوشائج والعلاقات الآدمية، فيما بينهم كمجتمعات، ومع الأماكن ونمط العيش الذي يحيونه. 

الأكثر تراجيدية في حالة السوريين هؤلاء، كامنٌ في نوعية التعاطي الذي تبذله قوى الهيمنة عليهم: فهم ممنوعون من التحكم بمصائرهم، كأفراد أو كجماعات، بأي شكل كان، لكن، وفي نفس الوقت، لا تعرض عليهم الجهات المتحكمة أي خيار أو فرض لما يجب أن يكونوا عليه، كما كانت تفعل الشموليات السياسية والآيديولوجية في مختلف بلدان منطقتنا، أثناء مراحل إعادة دمجها للجماعات والكتل السكانية "المتمردة".  

في تاريخ منطقتنا، وعموم العالم، ثمة ترسانة شاملة من سياسات "الإدماج القسري"، سياسياً وجغرافياً وإيديولوجياً ولغوياً وثقافياً، مارستها مختلف الأنظمة الشمولية في تاريخنا الحديث، لكنها بمجموعها، ومع كل المآسي التي كانت تكتنزها، غير متوفرة بتاتاً لهؤلاء السوريين.  

للمرء مثلاً أن يتذكر "سياسات التحضر القسري" التي فرضتها رومانيا على مواطنيها الغجر في عقد الثمانينيات. أو ما ناظرها من توجهات للمركزية الإجبارية التي مارستها صربية ضد إقليم كوسوفو في اوائل التسعينيات، أو الفروض اللغوية والثقافية وعمليات تعريب الحياة العامة التي نفذها حزبا البعث في سوريا والعراق على أكراد الدولتين طوال قرنٍ كاملٍ، أو توجهات الاستيعاب العنيف التي نفذتها بلغاريا ضد مواطنيها من القومية التركية. وأن يتذكر معها إن ما هو معروض راهناً على ملايين السوريين هؤلاء، هو دون كل ذلك بكثير، على الرغم من كل القهرية التي في كل تلك الممارسات السابقة. 

فتلك الأفعال، ودائماً مع إدانة تامة لكل تفصيل فيها، أنما كانت مبنية على هيكلية الدولة، التي كانت من طرفٍ تملك رؤية ما، لما يجب ويُمكن لهذه الكتل السكانية أن تكون عليه مستقبلاً. كذلك لأن تلك الهيكلة الدولتية كانت قائمة على مجموعة من الأجهزة والمؤسسات، حيث لهذه الأخيرة لائحة من المعايير والسلوكيات البيروقراطية، التي تؤمن حداً معقولاً من حفظ الحياة.  

كانت هيكلة الدولة تلك، بكل ما كانت تكتنزه من قهرية، أنما توفر مستويات ما من المسؤولية في عمليات إعادة الإدماج، على الأقل حفاظاً على غريزتها وشرط بقائها كـ"دولة". كان يحدث ذلك بالذات حينما يقبل "المتمردون" هؤلاء شروط إعادة التشكيل والإدماج المفروضة عليهم. فوقتئذ، يتم حفظ أمانهم الجسدي على الأقل، ومعها شيء غير قليل من ممتلكاتهم وأعمالهم، وطبعاً جزءا واسعاً من كراماتهم الشخصية والعائلية، وقد يحيون فترات طويلة من الاستقرار المكاني والاجتماعي، وإن بدون حقوق سياسية وحريات عامة ذات قيمة.  

حتى ذلك الشيء غير متوفر للسوريين هؤلاء. فما هو مطروح عليهم هو مزيج من تحطيم شبكة الحياة وإعادة الساعة سنوات إلى الوراء، مثلما هي الحال مع أربعة ملايين سوري مقيم في تركيا. أو الدخول في ظلال هيمنة عصابات إنتقامية، تمارس الإبادة الباردة مثلما تتابع مباراة لكرة القدم، كما هو متوقع مع أربعة ملاين سوري آخر في مناطق شمال غرب البلاد. أو التأسيس لإبادة وتنازع أهلي عرقي مديد، وبمعايير مختلة، مثلما هو معروض على سكان شمال شرق البلاد.  

لكن، هل لأي عاقل أن يتخيل حدوث كل ذلك بسلاسة، دون بحر من الدماء، يفوق بمستوى وعدد الضحايا ما أنتجته عمليات الإدماج القسرية التي كانت في تواريخ سابقة!

دون شك لا، على الأقل سيتسبب ذلك مزيج غير قليل من الفوضى والصراع والتوترات الاجتماعية، وطبعاً موجات من الهجرة الجماعية. تلك الأحداث التي ستختفي معها معالم وجود مسألة سورية بالأساس، ومعها تاريخ مديد من الارتكابات التي مارسها الفاعلون بحق السوريين هؤلاء من قِبل، وسيمسح لطيف واسع من السلطويين على جانبي الحدود إعادة مركزة هياكل حُكمهم، على حساب مجموعة ضحمة من الأناس المتنازلين عن أدنى حقوقهم الآدمية، وليس السياسية فحسب.  

لكنه مسار لن يُعمر طويلاً أغلب الظن، فهذا المستوى من هدر الكرامة الآدمية كان الأساس الذي عبره اندلعت الثورة السورية، وغالباً سيكون فاعلاً وقادراً على إعادة تنشيط دورة حياة الانتفاض من جديد، وبشكل أكثر راديكالية، لأنها لن تكون انتفاضة لانتزاع الحقوق السياسية هذه المرة، بل لانتزاع الحياة نفسها.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.