إردوغان يستعد لانتخابات الرئاسة
إردوغان يستعد لانتخابات الرئاسة

في كل يوم يؤكّد الرئيس التركي إردوغان على انتمائه إلى المدرسة النفعيّة في السياسة التي صاغها قبل خمسة قرون الفيلسوف والسياسي الإيطالي نيكولو مكيافيلي، التي تُبيح إستخدام جميع الوسائل مهما كانت قاسية للوصول إلى السلطة والإحتفاظ بها، ولتأكيد ذلك يمكن إستعراض بعض مقولات مكيافيلي ومقارنتها مع قرارات وسياسات إتّبعها إردوغان.

أول وأشهر مقولات مكيافيلي هي "الغاية تُبرّر الوسيلة" التي لم يُقيّدها بأي شروط أو إعتبارات إنسانية أو أخلاقية ممّا جعلها قاعدة يستطيع كل ديكتاتور أن يلجأ إليها عند اللزوم لأنها تُبيح له قتل أخيه أو كل من يعارضه من شعبه من أجل الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، بينما في الأحوال العادية يبحث صاحب الأهداف النبيلة عن وسائل مقبولة أخلاقيا لتحقيق أهدافه.

وذلك لأن مكيافيلي رفض النظرة الأخلاقية للسلطة، التي تشترط أن يكون الحاكم متمتّعا بالفضيلة، "إن الأولوية عند الحاكم هي اكتساب القوة والحفاظ عليها، امتلاك القوة والأسلحة الجيدة أهم من القوانين والحقوق الشرعية، والخوف والفزع من العقاب أكثر تأثيراً في الشعب من الشرعية"، "من الأفضل أن تكون مُهاباً لا محبوباً لأنه من الصعب تحقيق الأمرين معاً والرعب من العقوبة لا يفشل أبداً، وإذا كان لا مفرّ من أذيّة أحد فلتؤذه بقسوة تجعلك لا تخاف من انتقامه".

وضمن نصيحة مكيافيلي بنشر الخوف عند الشعب، يمكن فهم الحكم القاسي الذي صدر بحق رجل الأعمال التركي عثمان كافالا، الذي أكّدته محكمة تركية قبل بضعة أيام وهو السجن مدى الحياة، وقال عثمان كافالا لنائب في المعارضة لو كان لديهم حبل لشنقوني، مع أن العالم يعتبر الاتهامات الموجّهة لكافالا مُلفّقة، وقالت الخارجية الأميركية أن واشنطن تشعر باستياء بالغ من هذا الحكم الظالم وطالبت بإطلاق سراحه فوراً.

وفي نفس القضية، حُكم على عدد من أصدقاء كافالا الأكاديميين، وبعضهم أتى من الخارج لحضور محاكمته بالسجن 18 عاماً، وأحدثت هذه الأحكام صدمة في المجتمع المدني في تركيا، ووصف أحد النشطاء الوضع: "الناس خائفون، هذا الحكم هو تهديد موجّه إلى جميع الصحفيين والمحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني".

وفي نفس السياق، والتوقيت، تمّ الحكم بسجن السياسي الصاعد، رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، لهدف وحيد هو منعه من المشاركة في الانتخابات المقبلة لأن استطلاعات الرأي أظهرت أنه أبرز منافسي إردوغان.

وكذلك قالت الخارجية الأميركية إنها "تشعر بخيبة أمل من محاولة إخراج أحد أهم منافسي إردوغان من المشهد السياسي"، وكان أكرم إمام أوغلو قد ألحق هزيمة مُذلّة بحزب العدالة والتنمية عام 2019 عندما انتزع منه حكم بلدية إسطنبول لأول مرة منذ خمسة وعشرين عاماً، وتم إلغاء هذه الانتخابات، ولكن عند إعادتها فاز أكرم إمام أوغلو بفارق أصوات أكبر. 

وهناك قاعدة أخرى عند مكيافيلي تقول إن "الدين ضروري لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس.. لا لخدمة الفضيلة"، ومن ناحية استغلال الدين لأهداف سياسية تجاوز إردوغان مكيافيلي بأشواط، مع أن "انتصارات" إردوغان الإسلامية كانت استعراضية وسطحيّة اقتصرت على تحويل كنائس أثرية موجودة في تركيا إلى مساجد، وبناء آلاف المساجد والمدارس الدينية الجديدة عوضاً عن بناء جامعات ومراكز بحث علمي، حتى ارتفع عدد طلاب المدارس الدينية من خمسين ألفاً قبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم إلى أكثر من مليون الآن، لكن إردوغان لم يتجرّأ على المساس بقوانين أتاتورك العلمانية التي تمنع تعدّد الزوجات، وتفرض المساواة في الإرث بين الجنسين، وتبيح المشروبات الكحولية.

ومن أقوال مكيافيلي أيضاً "لا تستبعد أي وسيلة للحفاظ على السلطة وكن جاهزاً لأي فعل"، وشمل هوس إردوغان بالحفاظ على السلطة وعدم الثقة بأي شخص أساتذته وأصدقاؤه التاريخيين، فبعد أن تبنّاه نجم الدين أربكان، المُلقّب بأبو الإسلام السياسي في تركيا، وجعله رئيسا لبلدية إسطنبول وفتح أمامه الباب نحو أعلى المناصب، انقلب عليه إردوغان حتى أن أربكان حذّر قبل وفاته قائلاً "إن تركيا ستسير إلى الظلام بسبب سياسات إردوغان، لذلك افعلوا ما بوسعكم حتى تُبعدوه عن السلطة".

ثم تعاون إردوغان مع الداعية فتح الله غولن، الذي يملك ويدير مؤسّسات ومعاهد دينية كبيرة مما ضمن له الفوز في الانتخابات وساعده بعد ذلك في التخلّص من ربع جنرالات الجيش التركي، وتعيين الكثير من القُضاة في المحاكم العليا في البلاد مما أدى الى سيطرة إردوغان عملياً على الجيش والقضاء، ولكنّه كذلك انقلب على غولن وجعله عدوّه الأول، ولا يفوّت اليوم فرصة دون مطالبة السلطات الأميركية بتسليمه إلى تركيا، ثم توسّعت قائمة من أبعدهم إردوغان لتشمل رفاقه القدامى مثل رئيس الدولة السابق عبد الله غول، ورئيس حزب العدالة والتنمية السابق أحمد داوود أوغلو، ثم الوزير والقيادي البارز علي باباجان ليوضّح إردوغان أنه لا يقبل بوجود أي منافس مُحتمل له.

كما قال مكيافيلي: حبّي لنفسي قبل حبّي لبلادي، وضمن هذه القاعدة يمكن فهم تقلبات سياسات إردوغان الخارجية لأنها لا تتماشى في كثير من الأحيان مع مصالح الدولة التركية، مثل ابتعاده عن الغرب القوي والمزدهر في سبيل إقامة علاقة متينة مع بوتين، لأن روسيا عدو تاريخي للدولة التركية، كما أن مواقف تركيا تتناقض كليّاً مع مواقف روسيا في جميع الملفّات الإقليمية من سوريا إلى ليبيا، وصولا لأذربيجان، حيث تدعم كل دولة طرفاً مختلفاً في الصراع.

حتى أن تركيا لا تستطيع الإعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم لأنها تعتبرها أراضي تركية مثل كثير من الأراضي التابعة حالياً لجمهورية روسيا الإتحادية، كما أن علاقة إردوغان الجيدة مع بوتين هدّدت عضوية تركيا في حلف الأطلسي، لأن دورها اقتصر مؤخّراً على تعطيل الحلف خدمةً لبوتين، وعبّر كثير من القادة الغربيين عن الاستياء من تصرّفات إردوغان وطالب بعضهم بإخراج تركيا من الحلف، ولا يوجد مبرّر لعلاقة إردوغان الوثيقة مع بوتين سوى طبيعة الحكم الفردي للنظامين في موسكو وأنقرة.

وكان آخر تقلّبات إردوغان محاولته التودّد للنظام السوري لأسباب انتخابية تتعلق بوجود ملايين اللاجئين السوريين في تركيا، الذين تحوّل وجودهم إلى الورقة الرئيسية في الإنتخابات المقبلة، لأن غالبية الأتراك يُرجعون تدهور وضعهم المعيشي والأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا إلى هؤلاء اللاجئين، وقال إردوغان تعليقاً على احتمال عودة علاقاته مع النظام السوري "لا خلاف أبديا في السياسة".

وهذا يختلف جوهرياً عن الموقف الأميركي والغربي عموما، الذي يعتبر أن القضية السورية ليست مجرّد "خلاف سياسي" بل قضيّة أخلاقية وإنسانية، ولذلك علّقت الخارجية الأميركية على لقاء وزيري الدفاع السوري والتركي: "إن الولايات المتحدة لا تدعم تطبيع العلاقات مع الديكتاتور الوحشي بشار الأسد، وتحضّ الدول على أن تدرس بعناية سجل حقوق الإنسان المروّع لهذا النظام طوال الـ12 عاماً الماضية".

ورغم كل الاستعدادات والمناورات التي قام بها إردوغان من أجل الفوز في هذه الانتخابات، ورغم أن الإعلام الرسمي سيُخصّص أغلب محطاته ووقته للدعاية له، فإن استطلاعات الرأي تتوقّع تراجُع مقاعد حزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات، لكنها تُرجّح فوز إردوغان في الإنتخابات الرئاسية إذا لم تتمكّن أحزاب المعارضة من ترشيح سياسي متميّز له حظ كبير في هزيمة إردوغان.

ولكن يبقى السؤال الكبير: أي السياسات سيتبنّى إردوغان "تلميذ مكيافيلي" في حال فوزه في الانتخابات؟ هل سيستمر في سياسة المصالحات مع دول الإقليم أم سيتخلّى عنها بعد أن حقّقت هدفها في إبقائه في السلطة لسنوات مقبلة؟

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.