لم يعد مستغرباً الحديث عن خلافات سياسية بين أقطاب تحالف قوى الإطار التنسيقي من جهة، وبين ائتلاف إدارة الدولة بصورة عامة من جهة أخرى. فشهر العسل بين تلك القوى انتهى، وتعودنا على نمط التحالفات الهشة التي تقتصر مهمتها على تشكيل الحكومة وتقاسم الوزارات والمناصب العليا في الدولة، ومن ثمّ تعود إلى الخلافات والتناحرات السياسية.
في كل دورة حكومية تثبت المنظومة الحاكمة أنها عاجزة عن الاستفادة من الأخطاء، أو حتى تسعى إلى تجاوز تلك الأخطاء، كما يفترض ذلك منطق العمل السياسي السليم. إلا أن القوى السلطوية تعيد إنتاج الآليات القديمة نفسها التي تتشكل على أساسها الحكومات. ولكنها تصرّ على استغفال الشارع من خلال رفع الحكومة شعارات وعناوين جديدة.
حكومة السوداني، التي أطلق عليها تسمية (حكومة الخدمة الوطنية) من قبل قوى الإطار التنسيقي، لحد الآن تعجز عن إقناع الشارع بخطواتها بأن ستكون حكومة لخدمة المواطن، وليس لخدمة قوى السلطة التي تتحاصص فيها وتتقاسم وزاراتها، وتسعى إلى توسيع دائرة نفوذها بالسيطرة على مكتب رئيس الوزراء وتتنافس بالحصول على رئاسة الهيئات المستقلة.
ويبدو أن رئيس الوزراء، أكثر ما يشغله الآن هو الترضيات وليس تنفيذ الخطط والمشاريع التي تحدّث عنها برنامجه الحكومي، ولا حتى معالجة مكامن الخلل في منظومة عمل الدولة التي تؤثر على التفاصيل اليومية لحياة المواطن. وحتى الآن، لم يتمكن السوداني من إقناع الشارع بخطواته ومواقفه وهو رئيسٌ للوزراء، ولم ينجح في معالجة ملفات كان يتصدى لنقدها، وكان يطرح حلولاً لها عندما كان نائباً في البرلمان للدورات الماضية.
لحد الآن، لا نعرف وفق أي معيار تنبثق التحالفات السياسية التي تشكل الحكومات في العراق. ورغم وضوح غلبة معيار مصلحة زعامات وأحزاب قوى السلطة، إلاّ أن التناقض بين خطاب العنتريات السياسية مابين الخصوم السياسيين، قبل أن يتحولوا إلى حلفاء في تشكيل الحكومة يجعل النفاقَ السياسي هو الصفة الأدق لملامح كل العملية السياسية التي تحكم وتتحكّم بالبلد.
كل الحكومات تتشكل على وفق مبدأ الاتفاقات والتنازلات السياسية، حتى وإن كانت هذه الاتفاقات والتنازلات على حساب مبادئ الدستور ومخالفة القوانين، ولذلك يتمّ تعطيل الكثير من الاستحقاقات الدستورية من أجل المضي بالاتفاقات السياسية. لكن سرعان ما يتم الانقلاب على تلك الاتفاقات ويعود الفرقاء-الشركاء السياسيون إلى الحديث عن احترام الدستور، الذي تم تجاهله في جلسات الاتفاق وتوقيع بنوده! وبالنتيجة خسرنا هيبة الدستور، ولم يتم تأسيس أعراف تحترم الاتفاقات السياسية.
الشراكة والتوازن والتوافق، التي تم الاتفاق عليها داخل تحالف إدارة الدولة، يبدو أن مهمتها انتهت بمجرد التصويت على البرنامج الوزاري لحكومة السوداني ومنح الثقة لوزرائها. فالخلافات داخل القوى السياسية السنية بدأت تلوح بالآفق، وهناك عودة للحديث عن عودة الصراع بشأن منصب رئيس مجلس النواب، والحديث عن تنامي نزعة "الدكتاتورية" لدى رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، التي تثير مخاوف شركائه السياسيين السنة، وربما يتفق معها بعض السياسيين الشيعة لتصفية حسابات سياسية قديمة.
مسعود بارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو مَن حدّد مبادئ التحالف مع قوى الإطار التنسيقي على وفق الشراكة والتوازن والتوافق، لم يتردد في وصف قرار المحكمة الاتحادية الأخير القاضي بعدم صحة القرارات الصادرة من قبل مجلس الوزراء في عامي 2021 و2022" بشأن تحويل الأموال لإقليم كردستان. بأنه "موقف عدواني ضد إقليم كردستان". مع أن البارزاني يعلم جيداً أنّ كل اتفاقاته السياسية التي يدخل فيها للمشاركة في الحكومة لم تكن ضمن الدستور، ولذلك هو يُحاجج بالاتفاقات على حساب النصوص الدستورية، ولعلّ هذا ما يؤكده نقده لقرار المحكمة، بأنه "ضد العملية السياسية وضد الحكومة العراقية وضد برنامج ائتلاف إدارة الدولة."
ربما يكون تصريح البارزاني مبرراً بذريعة التوافق على تشكيل الحكومة وفق اشتراطات محددة، ولكن الأكثر غرابة هو ردّ الشيخ قيس الخزعلي شريكه في تحالف إدارة الدولة، الذي يعتقد فيه "أن السبيل الوحيد لاستقرار العملية السياسية، والحفاظ على الحقوق، هو الالتزام بسقف الدستور" وأن من يضمن الحقوق هو الدستور! وهذا دليلٌ على أنّ في الاتفاقات السياسية كانت مبادئ الشراكة والتوازن والتوافق حاضرة بقوة، وأن احترام الأطر الدستورية كانت غائبة في النقاشات والحوارات.
كل التنازلات متاحة لتشكيل الحكومة، وعلى وفق هذا المبدأ يجلس الفرقاء-الشركاء ويتفقون على تقاسم الوزرات، وبعد ذلك يعودون إلى الحديث عن الدستور والالتزام بمبادئه ونصوصه! ولذلك لم يعد مستغرباً أن يتحوّل الدستور إلى وسيلة للاحتجاج السياسية وليس الوثيقة القانونية العليا التي يتم على مبادئها إدارة الدولة ومؤسساتها! ومن يتمادى في خرق الدستور، ومن يعمل وفق مبدأ الترضيات ويبحث عن ضمان حصته عندما يتم تقاسم مغانم السلطة، لا يمكن أن يقنعنا بأنه يؤمن بالدولة وبعلوية القانون، حتى وإن تباكى ليلاً ونهاراً على الدستور والأعراف السياسية ومبادى الدستور، وبفضل الطبقة الحاكمة، أصبحا طريقين متقاطعين. فالعملية السياسية تقوم على التوافقات التي في أغلب مفاصلها تتقاطع مع أحكام الدستور، والدستور إذا لم يحظَ بالإجماع السياسي بكونه فيصلاً في حل النزاعات وحاكماً في الخلافات وله العلوية على كل الاتفاقات السياسية، سيتحوّل إلى مجرد أوراق لا قيمة لها. وهنا يمكن اختزال مأساتنا مع واقع اللادولة التي نعيش فيها، ويسعى ساستُنا الأشاوس إلى تكريسها في كل حكوماتهم التي يشكلونها.
وأخيراً، ستبقى الحكومة في تيهان ما ترتبه المحاصصة من استحقاقات، وما يتطلبه النجاح من شروط، وبالنتيجة لا تنجح في نيل رضا قوى السلطة وأقطابها، ولا الحصول على ثقة الجمهور.