واشنطن لديها توجّه جديد لمواجهة مناطق النفوذ الإيراني
شكل محمدش ياع السوداني حكومة جديدة في ظل أزمات سياسية واقتصادية يعاني منها العراق

لم يعد مستغرباً الحديث عن خلافات سياسية بين أقطاب تحالف قوى الإطار التنسيقي من جهة، وبين ائتلاف إدارة الدولة بصورة عامة من جهة أخرى. فشهر العسل بين تلك القوى انتهى، وتعودنا على نمط التحالفات الهشة التي تقتصر مهمتها على تشكيل الحكومة وتقاسم الوزارات والمناصب العليا في الدولة، ومن ثمّ تعود إلى الخلافات والتناحرات السياسية.

في كل دورة حكومية تثبت المنظومة الحاكمة أنها عاجزة عن الاستفادة من الأخطاء، أو حتى تسعى إلى تجاوز تلك الأخطاء، كما يفترض ذلك منطق العمل السياسي السليم. إلا أن القوى السلطوية تعيد إنتاج الآليات القديمة نفسها التي تتشكل على أساسها الحكومات. ولكنها تصرّ على استغفال الشارع من خلال رفع الحكومة شعارات وعناوين جديدة.

حكومة السوداني، التي أطلق عليها تسمية (حكومة الخدمة الوطنية) من قبل قوى الإطار التنسيقي، لحد الآن تعجز عن إقناع الشارع بخطواتها بأن ستكون حكومة لخدمة المواطن، وليس لخدمة قوى السلطة التي تتحاصص فيها وتتقاسم وزاراتها، وتسعى إلى توسيع دائرة نفوذها بالسيطرة على مكتب رئيس الوزراء وتتنافس بالحصول على رئاسة الهيئات المستقلة.

ويبدو أن رئيس الوزراء، أكثر ما يشغله الآن هو الترضيات وليس تنفيذ الخطط والمشاريع التي تحدّث عنها برنامجه الحكومي، ولا حتى معالجة مكامن الخلل في منظومة عمل الدولة التي تؤثر على التفاصيل اليومية لحياة المواطن. وحتى الآن، لم يتمكن السوداني من إقناع الشارع بخطواته ومواقفه وهو رئيسٌ للوزراء، ولم ينجح في معالجة ملفات كان يتصدى لنقدها، وكان يطرح حلولاً لها عندما كان نائباً في البرلمان للدورات الماضية.

لحد الآن، لا نعرف وفق أي معيار تنبثق التحالفات السياسية التي تشكل الحكومات في العراق. ورغم وضوح غلبة معيار مصلحة زعامات وأحزاب قوى السلطة، إلاّ أن التناقض بين خطاب العنتريات السياسية مابين الخصوم السياسيين، قبل أن يتحولوا إلى حلفاء في تشكيل الحكومة يجعل النفاقَ السياسي هو الصفة الأدق لملامح كل العملية السياسية التي تحكم وتتحكّم بالبلد.

كل الحكومات تتشكل على وفق مبدأ الاتفاقات والتنازلات السياسية، حتى وإن كانت هذه الاتفاقات والتنازلات على حساب مبادئ الدستور ومخالفة القوانين، ولذلك يتمّ تعطيل الكثير من الاستحقاقات الدستورية من أجل المضي بالاتفاقات السياسية. لكن سرعان ما يتم الانقلاب على تلك الاتفاقات ويعود الفرقاء-الشركاء السياسيون إلى الحديث عن احترام الدستور، الذي تم تجاهله في جلسات الاتفاق وتوقيع بنوده! وبالنتيجة خسرنا هيبة الدستور، ولم يتم تأسيس أعراف تحترم الاتفاقات السياسية.

الشراكة والتوازن والتوافق، التي تم الاتفاق عليها داخل تحالف إدارة الدولة، يبدو أن مهمتها انتهت بمجرد التصويت على البرنامج الوزاري لحكومة السوداني ومنح الثقة لوزرائها. فالخلافات داخل القوى السياسية السنية بدأت تلوح بالآفق، وهناك عودة للحديث عن عودة الصراع بشأن منصب رئيس مجلس النواب، والحديث عن تنامي نزعة "الدكتاتورية" لدى رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، التي تثير مخاوف شركائه السياسيين السنة، وربما يتفق معها بعض السياسيين الشيعة لتصفية حسابات سياسية قديمة. 

مسعود بارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو مَن حدّد مبادئ التحالف مع قوى الإطار التنسيقي على وفق الشراكة والتوازن والتوافق، لم يتردد في وصف قرار المحكمة الاتحادية الأخير القاضي بعدم صحة القرارات الصادرة من قبل مجلس الوزراء في عامي 2021 و2022" بشأن تحويل الأموال لإقليم كردستان. بأنه "موقف عدواني ضد إقليم كردستان". مع أن البارزاني يعلم جيداً أنّ كل اتفاقاته السياسية التي يدخل فيها للمشاركة في الحكومة لم تكن ضمن الدستور، ولذلك هو يُحاجج بالاتفاقات على حساب النصوص الدستورية، ولعلّ هذا ما يؤكده نقده لقرار المحكمة، بأنه "ضد العملية السياسية وضد الحكومة العراقية وضد برنامج ائتلاف إدارة الدولة."

ربما يكون تصريح البارزاني مبرراً بذريعة التوافق على تشكيل الحكومة وفق اشتراطات محددة، ولكن الأكثر غرابة هو ردّ الشيخ قيس الخزعلي شريكه في تحالف إدارة الدولة، الذي يعتقد فيه "أن السبيل الوحيد لاستقرار العملية السياسية، والحفاظ على الحقوق، هو الالتزام بسقف الدستور" وأن من يضمن الحقوق هو الدستور! وهذا دليلٌ على أنّ في الاتفاقات السياسية كانت مبادئ الشراكة والتوازن والتوافق حاضرة بقوة، وأن احترام الأطر الدستورية كانت غائبة في النقاشات والحوارات.

كل التنازلات متاحة لتشكيل الحكومة، وعلى وفق هذا المبدأ يجلس الفرقاء-الشركاء ويتفقون على تقاسم الوزرات، وبعد ذلك يعودون إلى الحديث عن الدستور والالتزام بمبادئه ونصوصه! ولذلك لم يعد مستغرباً أن يتحوّل الدستور إلى وسيلة للاحتجاج السياسية وليس الوثيقة القانونية العليا التي يتم على مبادئها إدارة الدولة ومؤسساتها! ومن يتمادى في خرق الدستور، ومن يعمل وفق مبدأ الترضيات ويبحث عن ضمان حصته عندما يتم تقاسم مغانم السلطة، لا يمكن أن يقنعنا بأنه يؤمن بالدولة وبعلوية القانون، حتى وإن تباكى ليلاً ونهاراً على الدستور والأعراف السياسية ومبادى الدستور، وبفضل الطبقة الحاكمة، أصبحا طريقين متقاطعين. فالعملية السياسية تقوم على التوافقات التي في أغلب مفاصلها تتقاطع مع أحكام الدستور، والدستور إذا لم يحظَ بالإجماع السياسي بكونه فيصلاً في حل النزاعات وحاكماً في الخلافات وله العلوية على كل الاتفاقات السياسية، سيتحوّل إلى مجرد أوراق لا قيمة لها. وهنا يمكن اختزال مأساتنا مع واقع اللادولة التي نعيش فيها، ويسعى ساستُنا الأشاوس إلى تكريسها في كل حكوماتهم التي يشكلونها. 

وأخيراً، ستبقى الحكومة في تيهان ما ترتبه المحاصصة من استحقاقات، وما يتطلبه النجاح من شروط، وبالنتيجة لا تنجح في نيل رضا قوى السلطة وأقطابها، ولا الحصول على ثقة الجمهور. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.