وزير الخارجية الأميركي في إسرائيل
وزير الخارجية الأميركي في إسرائيل

يبدأ وزير الخارجية أنتوني بلينكن اليوم محادثاته مع المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين على خلفية غارات وهجمات دموية في الضفة الغربية المحتلة والقدس هي الأخطر منذ أكثر من عقد من الزمن، ووسط توتر سياسي وأمني يهدد بانفجار عسكري مفتوح، وفي وقت يشهد فيه المجتمعان الإسرائيلي والفلسطيني انقسامات سياسية وأيديولوجية ليس من المتوقع ردمها في أي وقت قريب، كان آخر تعبير عنها تشكيل الحكومة الأكثر تطرفا وعنصرية في تاريخ إسرائيل. هذا هو ببساطة وصراحة شكل الأشياء القادمة على المسرح الفلسطيني- الإسرائيلي.

قبل وصول بلينكن إلى إسرائيل شنت القوات الإسرائيلية غارة ضد مخيم في جنين، أدت إلى مقتل 10 فلسطينيين من بينهم امرأة مسنّة، ما رفع عدد القتلى الفلسطينيين خلال الشهر الأول من 2023 إلى 32. وعقب ذلك قام شاب فلسطيني بقتل 7 إسرائيليين يوم الجمعة قبالة كنيس في القدس المحتلة، يوم السبت قام شاب فلسطيني عمره 13 سنة بجرح إسرائيليين. ويوم الأحد قتل حراس إحدى المستوطنات شابا فلسطينيا قالوا إنه كان يحمل مسدسا... هذا كان حصاد الدم خلال بضعة أيام سبقت زيارة بلينكن. الغارة ضد مخيم جنين جاءت ضمن الحملة العسكرية التي بدأتها القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية قبل حوالي سنة عقب اشتباكات مسلحة مع الفلسطينيين، وأدت إلى مقتل 170 فلسطينيا، و30 إسرائيليا وأجنبيا في السنة الماضية، وهو أعلى رقم من القتلى منذ 2014.

بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي أكد بيانها الوزاري حق اليهود غير القابل للتصرف لإسرائيل والضفة الغربية والتي تضم وزراء يحتلون مناصب أمنية مهمة ويدعون علنا لضم الأراضي المحتلة وتغيير وضع الحرم الشريف وترجمة هذه المواقف المتطرفة إلى إجراءات أمنية متشددة ضد الفلسطينيين خلال أقل من شهر، والرد الفلسطيني المسلح عليها، أدركت واشنطن أنها لم تعد قادرة على تجاهل الغليان في هذه المنطقة الحساسة وتركيز اهتمامها على التصدي للغزو الروسي لأوكرانيا، واحتواء التحدي الصيني.

تأتي زيارة بلينكن أيضا على خلفية تضييق حكومة نتنياهو وحلفائها للضغوط على القضاء الإسرائيلي ما أدى إلى تظاهرات احتجاجية عارمة في إسرائيل، واحتجاجات وتحفظات من قبل المنظمات والشخصيات اليهودية الأميركية التي ترى في هذه الضغوط دليلا إضافيا على جنوح الحكومة الجديدة باتجاه السياسات الأوتوقراطية.

ومنذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة جرت اتصالات وزيارات متبادلة من قبل المسؤولين البارزين في البلدين شملت زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي إيه) الذي التقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمس (الأحد) حيث تمت مناقشة إيران وبرنامجها النووي وتزويدها بالمسيرات لروسيا لاستخدامها ضد المدنيين الأوكرانيين وبنيتهم التحتية، إضافة إلى محاولة احتواء التوتر المتصاعد بين الفلسطينيين وإسرائيل، وخاصة بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة، ومنع نشوب مواجهة عسكرية مفتوحة. وقبل أسبوع من وصول بلينكن لإسرائيل أجرت القوات الأميركية والإسرائيلية أكبر مناورات عسكرية بين البلدين حتى الآن شارك فيها آلاف الجنود، وكانت مصممة لبعث رسالة ردع واضحة لإيران. وفي نهاية الأسبوع الماضي تعرضت منشآت عسكرية إيرانية في محيط مدينة أصفهان إلى قصف جوي من مسيرات أطلقت من داخل إيران ويعتقد أن إسرائيل كانت مسؤولة عنها.

القضايا الآنية والملحة، وفقا لإجازات وتسريبات صحفية التي سيتطرق إليها بلينكن مع الإسرائيليين هي تعليق الإجراءات الأمنية ومن بينها هدم منازل الفلسطينيين المتهمين بالقيام بأعمال عنف ضد الإسرائيليين والانتقام من أفراد عائلاتهم، وتخفيف حدة المواقف السياسية المتطرفة، والتعهد بالعمل على إقناع السلطة الفلسطينية لاستئناف التعاون الأمني. ويعتقد أن هذا هو الهدف الأول لبلينكن في محادثاته مع الرئيس عباس الذي أعلن فور الغارة ضد جنين عن تعليق التنسيق والتعاون الأمني بين السلطة وإسرائيل، وهو أمر يقول الكثير من الفلسطينيين إنهم يرفضونه. كما سيطلب بلينكن من عباس عدم رفع الغارة ضد جنين ومقتل المدنيين الفلسطينيين إلى المحكمة الجنائية الدولية. وسوف يكرر بلينكن علنا ما يقوله هو وغيره من المسؤولين الأميركيين حول ضرورة قيام "الطرفين" بتخفيف التوتر وممارسة أقصى درجات ضبط النفس وكأن الطرفين متساوون.

سعى الرئيس بايدن وفريقه منذ استلامهم للسلطة لمحاولة إصلاح العلاقات مع الفلسطينيين بعد أن وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ بداية ما سمي بعملية السلام قبل عقود خلال إدارة الرئيس السابق ترامب الذي نقل السفارة الأميركية إلى القدس التي اعترف بها عاصمة لإسرائيل، وقطع المساعدات الأميركية عن الفلسطينيين. بايدن استأنف المساعدات للفلسطينيين والاتصالات معهم، وبدأ وحكومته بطرح مقولة أن "الإسرائيليين والفلسطينيين يستحقون درجات متساوية من الأمن والحرية والفرص والكرامة". الوزير بلينكن شدد على هذه المقولة في خطاب ألقاه بعد اجتماعه بالرئيس الفلسطيني عباس حين زاره في رام الله عقب التوصل إلى وقف لإطلاق النار في المواجهة العسكرية بين إسرائيل وحركة حماس في 2021.

ولكن واشنطن لم تشرح ما تقصده بهذه المقولة أو ما تعنيه عمليا، والأهم من ذلك كيف يمكن ترجمتها إلى حيز الواقع. ومع بداية النصف الثاني من ولاية الرئيس بايدن لم تقم إدارته بأي جهود جدية لإحياء عملية المفاوضات السياسية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، لا بل إنها كانت توحي بأنها لا تعتقد أن الظروف مناسبة أو ناضجة لمثل هذه المساعي، إما بسبب الهوة الواسعة بين الطرفين، أو لان الطرفان أو أحدهما غير مستعد أو قادر على العودة إلى مسار المفاوضات.

المقولة لافتة، وكان يمكن أن تكون بداية مختلفة وجديدة لإدارة بايدن لو كانت جدية وأكثر من مجرد شعار جذّاب وواعد. هل يمكن أن يتمتع الفلسطينيون بفرص متساوية في مجالات الأمن والحرية والكرامة مع الإسرائيليين؟ والأهم من ذلك هل يمكن للفلسطينيين أن يتمتعوا بفرص متساوية مع الإسرائيليين في مجال الحرية، وهل يمكن تحقيق ذلك دون تحدي الاحتلال الإسرائيلي؟

الهوة بين تصريحات وشعارات الرئيس بايدن ومساعديه وبين سياساتهم وإجراءاتهم الفعلية لا تقتصر على النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل تتخطاه إلى قضايا أخرى في الشرق الأوسط. تأكيدات بايدن قبل وبعد انتخابه أنه سيتخذ موقفا قويا من انتهاكات دول مثل السعودية وتركيا ومصر لحقوق الإنسان ولجيرانها بقيت في سياق الإجراءات العقابية الخجولة والمؤقتة أو في سياق التهديدات اللفظية المحض.

سوف يبذل بلينكن أقصى جهوده لاحتواء التوتر الراهن بين إسرائيل والفلسطينيين ومنع انفجاره إلى مواجهة عسكرية دموية أخرى. وفي هذا السياق سوف يحض الوزير الأميركي وسوف يناشد نظرائه على ضبط النفس، وسوف يشرح خطورة ومضاعفات أي حَمَّام دم جديد في هذه المرحلة الحساسة التي يمر فيها العالم. وبعد ساعات من المحادثات الرصينة والحامية والمكثفة، سوف يودع من التقى بهم ويشد على أياديهم وسوف يعود إلى واشنطن مدركا مثله مثل كل الذين التقى بهم أن محادثاته لن تغير أي شيء على الأرض، وان عنف الأيام الماضية هو شكل الأشياء القادمة.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.