مناصرون لحزب الشعوب الديمقراطية يرقصون في تجمع بمناسبة عيد نوروز. إرشيفية.
مناصرون لحزب الشعوب الديمقراطية يرقصون في تجمع بمناسبة عيد نوروز. إرشيفية.

شكلت حادثة مقتل "نعمت أنكو" قبل عدة أيام، القيادي في ميليشيا "حراس القرى" الكردية الموالية للجيش التركي، مناسبة لمختلف الأفراد ومؤسسات السلطة التركية لأن تستعيد دعاية تقليدية ظلت تستخدمها لعقود كثيرة، تقول: إن عشرات الآلاف من الأكراد المتعاونين والتابعين الموالين لـ"مؤسسات العنف" التي للدولة التركية، من جيش وأجهزة استخبارات وأمن ودرك ومليشيا مدنية، أنما يمثلون "الشعب الكردي" في تركيا، في حين يُشكل مقاتلو الحركة التحررية القومية الكردية، بالذات مقاتلي حزب العمال الكردستاني، ومعهم تنظيمات سياسية مدنية، مثل حزب الشعوب الديمقراطية، نموذجا غريبا ومعاديا لهذا الشعب!  

لأيام كثيرة، حضرت حادثة مقتل أنكو في الأوساط السياسية ووسائل الإعلام الموالية للسلطة في تركيا، مع تكثيف شديد لمثل ذلك الخطاب والتوجه. فمختلف الوزراء والبرلمانين المقربين من السلطة نعوا أنكو باعتباره "بطلاً وطنياً"، فيما حضر وزير الداخلية جنازته الرسمية في قريته في أعالي جبال منطقة شرناخ، أقصى جنوب شرق تركيا، حيث الأغلبية السكانية الكردية المطلقة. بدوره هاتف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والد أنكو، معتبراً أن تجربة نجله في قتال المتمردين الأكراد، والتي امتدت لعشرات السنوات، تشكل نموذجاً للوحدة الوطنية في تركيا.  

على أن النقاشات السياسية والإعلامية الرديفة لتلك الحادثة كانت أهم ما يجري في ذلك النسق. فالأوساط المقربة من السلطة صارت تقول فجأة إن عشرات الآلاف من المقاتلين هؤلاء، المتأتين من أعماق المجتمع الأهلي الكردي في البلاد، والموالين للدولة وسياساتها واستراتيجياتها، والملتزمين بقراراتها على الدوام، أياً كانت، هُم الممثلون الحقيقيون للشعب الكردي في البلاد، والنموذج الذي يقدمونه إثبات على عدم وجود "قضية كردية" في تركيا، بدلالة هذا الولاء العميق والممتد لعشرات السنوات الذي يحمله هؤلاء تجاه الدولة التركية. 

في العمق، كانت تلك المداولات السلطوية تحاول التصريح وتثبيت أمرٍ آخر، يقول إن الحركة التحررية القومية الكردية، التي تخوص كفاحاً مسلحاً لنيل الحقوق الكردية منذ عشرات السنوات، ومثله حزب الشعوب الديمقراطية "الموالي للأكراد"، والذي يشكل ثاني أحزاب المعارضة ضمن البرلمان التركي، لا يمثلون الأكراد وتطلعاتهم في تركيا، بل معادون لهم، وأن المجتمع الكردي بأغلبيته المطلقة أقرب للسلطة الحاكمة في البلاد وشرعية حكمها ونوعية خياراتها السياسية.  

إلى جانب المنطق السلطوي القسري الذي تتضمنه تلك النوعية من الخطابات، لما تتضمنه من محاولة لنفي الحقائق على أرض الواقع، فإنها تحاول اختبار ما جُرب لآلاف المرات من قبل، وأثبت فشله على الدوام، في تركيا وغيرها من بلدان المنطقة. فاختلاق مضاد نوعي، سياسي وعسكري، من ضمن الأوساط الاجتماعية الكردية في هذه البلدان، موالٍ للسلطات الحاكمة ومناهض للحركات التحررية الكردية، ومن ثم الإيحاء والإصرار على أن هذا التكوين المختلق يمثل المجتمع والفضاء الكردي العام، تجربة أثبتت فشلها مرة بعد أخرى.  

فميليشيا "حراس القرى" هذه مثلاً، التي تم تشكيلها منذ أواسط الثمانينيات، عبر إغراء ورشوة السلطات التركية لزعماء بعض العشائر والمناطقيات الكردية، واستدراج آلاف الشبان الأكراد ليكونوا مقاتلين رديفين للجيش التركي، يجمعون المعلومات ويهددون الأوساط الاجتماعية الكردية المقربة من الحركة القومية الكردية، مقابل حصولهم على امتيازات مالية ووظائفية، وسطوة مجتمعية وسلوكية، أثبتت فشلها التام في تحقيق تلك "الأمنية" المضمرة في ذات الجهاز السلطوي والدولة العميقة في تركيا.  

فمع كل تلك الامتيازات والمواقع وأشكال الدعم التي مُنحت لهذه الميليشيات لعشرات السنوات، لم تشكل أي تمثيل للمجتمع الكردي في تركيا، المقدر عددياً بحوالي 25 مليون، بل بقيت على الدوام محل ازدراء سياسي واحتقار مجتمعي ونبذ ثقافي من قِبل القواعد الاجتماعي لهؤلاء الأكراد، بدلالة ما يلي:  

فالذاكرة الجماعية الكردية ممتلئة بآلاف المرويات والحكايات عن أفعال وسلوكيات مارستها هذه الميليشيات بحق أبناء هذا المجتمع الكردي في تركيا طوال هذه السنوات. فممارسة السطوة والبطش الاجتماعي ضد هذه القواعد الاجتماعية كان شرطاً أولياً ونوعية إغراء خاصة تمنحها السلطات التركية لعشرات الآلاف من المقاتلين المتعاونين معها، لذلك ثمة اندراج دائم من قِبل أعضاء هذه الميلشيا في تلك الأعمال الجنائية والجرمية، مستفيدين من رعاية الأجهزة الأمنية وغض نظر نظيرتها القضائية عنهم.  

وزارة الداخلية التركية اعترفت في العام 1996 بوجود مئات الجرائم مثل تلك، لترفع العدد بعد عشرة سنوات فحسب، وتقول في تقرير لها خلال العام 2006 إن 5000 عضو في هذه التنظيمات منخرطون تماماً في تلك الأعمال الجرمية. تقرير المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في العام 2020 تجاوز كل التصورات السابقة بشأن جرائم هذه المليشيات، واصفاً إياها بكونها "انخراط تام في ممارسة مختلف الجرائم، من قتل واغتصاب وترويع للسكان وحرق المنازل والحقول والاستيلاء على الملكية والتجارة وعالم الاقتصاد، عبر الشعور بالحصانة الدائمة من أية ملاحقة أو عِقاب". وهي نفس النعوت والعبارات التي تكررها منظمة مراقبة حقوق الإنسان " Human Rights Watch" عبر كل تقاريرها السنوية حول تركيا.  

فوق ذلك، فإن أعضاء تلك المليشيات يبدون ككائنات وظيفية فحسب، بالذات بالنسبة للجهاز السلطوي/الأمني المُشغل لهم. فهم يخوضون أعمالاً مجردة، كما يفعل "مرتزقة" الشركات الأمنية العالمية، العابرون للحدود، دون أية نزعات عقائدية أو سياسية أو فكرية ثقافية. 

إذ كيف للمرء أن يتخيل تنظيماً مؤلفاً من عشرات الآلاف من الأعضاء، يعيشون ضمن مناطقهم الجغرافية وبيئاتهم الاجتماعية الأكثر أهلية، دون أن يكون لهم إذاعة أو جريدة إعلامية، وطبعاً دون أي خطاب سياسي أو عقائدي إيديولوجي، ولو على سبيل التلفيق، يدافع عن خياراتهم ونوعية سلوكهم، أمام المجتمع الأكثر ضيقاً، عائلاتهم الصغيرة على الأقل.  

على العكس تماماً، فإن هؤلاء يتعرضون لعقاب مجتمع من نوع خاص. فطوال عشرات السنوات هذه، لم تصدر من المجتمع الكردية أغنية موسيقية كردية واحدة تمدح أفعالهم، في وقتٍ ثمة عشرات آلاف الأغاني والمواويل وحكايات البطولة التي يتداولها الأكراد في تركيا بشأن مقاتلي الحركة القومية الكردية. حتى أن الذاكرة السياسية والإيديولوجية والتاريخية للمجتمع الكردي تكاد أن تكون مجرد سيل من الأغاني والأناشيد والمواويل المطولة.  

هذا العقاب الثقافي الصامت، والأكثر شدة، الذي تمارسه الأوساط الاجتماعية الكردية، يمتد ليصل كل شيء في الحياة العامة الكردية. فعلى منوال الأغاني، تصر مختلف الروايات الأدبية والقصص والقصائد والمرويات الأفلام والمسرحيات التي تم إنتاجها وتداولها في الأوساط الكردية طوال هذه العقود على ركنهم في مكانة الازدراء، تحملهم وزر العنف والإجرام والمحق الذي يتعرض له الكرد في تركيا، تعتبرهم الجزء الملطخ بـ"العار" من الجسد الاجتماعي الأوسع. حتى إن تسميتهم الشعبية "قوروجي" تكاد أن تكون رديفاً للشتيمة والسُباب. وتالياً فإن الانتماء لتلك المجتمعات المسلحة تصل لمرتبة العار الممتد، الذي قد تحمله عائلة ما، جيلاً بعد آخر، ما لم تمارس براءة وطهرانية مما فعله بعض أبنائها.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.